بينت في مقالي الأحد الماضي، أنه ما من ثورة في التاريخ لم يصاحبها عنف ولم ترق فيها دماء، وما من ثورة، لم تضع في حساباتها، ما سيراق من دم لتحقيق أهدافها، وأغلب الثورات، انتقمت من خصومها إلا الثورة الإسلامية، فقد كانت ثورة بيضاء بحق، وقد نزل فيها قوله سبحانه وتعالى على نبيه ورسوله، قائد هذه الثورة: «إنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً».

ففعل ما أمره به المولى عز وجل، من تبليغ رسالة الحق، وهو دين التوحيد بالمولى الواحد، ونبذ عبادة الأصنام والنار والشمس، هدى للعالمين، بالمبادئ السماوية، العدل والحرية والمساواة، التي قامت من أجل إرسائها الثورة الفرنسية (1789) بعد ثلاثة عشر قرنا من الزمان، وأخذ بها دستور الكويت في المادة (7) باعتبارها المقومات الأساسية الثلاثة للمجتمع، وما كانت تطبيقا لمبادئ هذه الثورة الأخيرة، بل تذكيرا وإيمانا بمبادئ الإسلام، الذي أصبح دين الدولة بموجب نص المادة (2) من هذا الدستور.

Ad

دعوة الأقربين

بدأها الرسول بدعوة عشيرته الأقربين، بني عبدالمطلب وبني مناف، وبني زهرة، وبني تيم، وبني مخزوم، وبني أسد، بعد أن نزل عليه الوحى، قائلا لهم: «لا أملك لكم من الدنيا منفعة ولا من الآخرة نصيبا إلا أن تقولوا لا إله إلا الله»، فأعرضوا عنه وعن دعوته، فقد كانوا أشد الشعوب محافظة على عقائدها وتقاليدها وعاداتها، التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم في عصور الوثنية، وقد اتخذوا هُبل واللات والعزّى وغيرها، وسيلتهم الى الله، يعبدونها، لتحقق لهم ما يبتغون، فإذا أخفقت، عزفوا عنها لغيرها، إلا علياً ابن عمه الصبي الذي نهض، وسط استغراب القوم ودهشتهم، ليقول لرسول الله: «أنا عونك يا رسول الله» وسط استغراق قومه ودهشتهم، فكان أول من أسلم.

ثورة انتصرت بعقيدتها‏ وإيمانها

وقد لاقى الرسول ومن اتبعه من المؤمنين، من التعذيب والتنكيل ما لا قبل لأحد بتحمله، ولم تنتصر الثورة بعددها أو عدتها، فقد انتصر المسلمون في معركة بدر على قريش بثلاث ‏مئة مقاتل وبضعة عشر رجلاً، معهم فَرَسان وسبعون جملاً، وكان تعدادُ جيش قريش ألفَ رجلٍ معهم مئتا فرس، أي كانوا يشكِّلون ثلاثة أضعاف جيش المسلمين.‏

وفي معركة بدر الكبرى التي توعد بها أبوسفيان المسلمين، وأرسل لهم من يثبطهم، ‏قال النبي (صلى الله عليه وسلم) «والله لأخرجن وإن لم يخرج معي أحد» فنزل قوله الله تعالى: «الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ».

ولم تكن المعارك التى خاضها المسلمون إلا دفاعا عن الدعوة، ودفاعا عن النفس، والمشركون يغالون في أذاهم للنبي ولمن دخل الإسلام، حتى هاجر البعض الى الحبشة، هربا من التعذيب الذي كانوا يلاقونه في مكة، كما حوصر المسلمون في الشِّعب ثلاث سنوات ومنع عنهم المشركون الطعام والشراب، كما هاجر الرسول وأبو بكر إلى المدينة، والقبائل تلاحقهما لقتلهما، ولم يفتّ ذلك من عضد الرسول والمؤمنين إلى أن تم فتح مكة.

تسامح لا انتقام

وقد فتحت جيوش المسلمين مكة دون أن تراق نقطة دم واحدة بعد أن أصبحت مكة ‏مؤمنة بالدين، إلا نفرا قليلا منهم أبو سفيان الذي قال للعباس، عم النبي وهو يرى الجيوش ‏تمر أمامه، لقد أصبح ابن أخيك ملكا، فرد عليه ‏العباس: يا أبا سفيان إنها النبوة.

وبعد فتح مكة، قال رسول الله: «‏من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن ومن دخل المسجد فهو ‏آمن»، وخطب في الناس في اليوم الثالث للفتح وأهل مكة جلوس وهو واقف بباب الكعبة: ‏‏«الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، يا معشر قريش ماذا ‏تقولون ماذا تظنون إني فاعل بكم؟ فأجاب سهل بن عمرو: آخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت، إن عذبتنا فبجرم عظيم ‏وإن عفوت فبحلم قديم، فتبسم صلى الله عليه وسلم في وجوههم وقال: فإني أقول ‏كما قال أخي يوسف «لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين... ‏اذهبوا فأنتم الطلقاء».‏

ثم استأنف رسول الله خطبته قائلا: ألا وإن الله تعالى قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتكبرها بآبائها، كلكم لآدم وآدم من ‏تراب، ثم تلا هذه الآية:‏ «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ».

كُتب إلى ملوك العالم

وقد سبقت الفتوحات الإسلامية في العالم كتب إلى ملوك العالم وجهها الرسول عليه والصلاة ‏والسلام يدعوهم إلى دين الله دين التوحيد، فكتب إلى ملك البحرين ‏والى ملكي عمان وملك اليمامة والنجاشي ملك الحبشة وقيصر وإلى كسرى ملك الفرس وأمير دمشق ‏والمقوقس والي الروم على مصر، والبطريرك على الكنيسة.‏

وفي كتاب الرسول للمقوقس، يقول: «ولسنا ننهاك عن دين المسيح ولكننا نأمرك به» و«إن عليك إثم القبط»، فقد كان الرسول يعلم بما يلقاه قبط مصر من مظالم على يد الرومان، وأن المقوقس يستبدل بأساقفتهم أساقفة يأتمرون بأمر السلطة، وأن البطريرك بنيامين، كان مختفيا في الصحراء بين الأديرة، ولما فتح عمرو بن العاص مصر، دعاه إلى العودة، فعاد إلى الظهور في الكنيسة، كما أعطى عمرو بن العاص الأمان لأهل مصر على أنفسهم وملكهم وكنائسهم وصلاتهم وبرهم وبحرهم»، امتثالا لقول نبي الرحمة «استوصوا بقبط مصر خيرا»، كما يقول النبي عليه الصلاة والسلام: «من آذى ذميا فأنا خصيمه يوم القيامه» و«من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئا بغير طيب خاطر، فأنا خصيمه يوم القيامه».

وقد أسلم ملك البحرين وملكا عمان، وجاءت وفود اليمامة مسلمة والرسول في فتح ‏مكة، وكان ملكهم قد وافته المنية، ورد النجاشي بأن ينظره زمنا حتى تلين قلوب ‏أتباعه، وبعث المقوقس إلى الرسول بجاريتين، إحداهما مارية التي تزوجها الرسول ‏وأنجب منها ولده إبراهيم، أما رسول رسول الله الذي كان يحمل كتاب النبي إلى أمير بصرى بالشام، فقد قتل قبل وصوله ومزق كسرى كتاب رسول الله، فلم تمض بضع سنوات حتى انهار ملكه تحت سنابك ‏خيل المسلمين.

الرسول وهرقل

ورمى أمير دمشق الكتاب بعد أن قرأه، فلما أرسل يطلب رأي هرقل، ‏وكان حاكمه في دمشق، نهاه أن يخبر النبي بما صنعه لكتابه، فقد كان هرقل شديد ‏الذكاء، دعا أبا سفيان بن حرب، وكان في تجارة بالشام مع نفر من قريش، ليسأله ‏عن نسب وحسب محمد، وصدقه أو كذبه، وأتباعه من أشرف الناس أو أضعفهم، وعن ‏قتالهم وإياه، وهل قال أحد هذا القول قبله، وبعد أن أجابه أبو سفيان، أعاد هرقل ‏بواسطة ترجمانه ما قاله أبو سفيان عن النبي، ثم سأله بم يأمركم؟ فأجاب أبو ‏سفيان «يأمرنا بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف، فقال هرقل: إن يكُ ما تقول فيه ‏حقاً، فإنه نبي، ولو كان في الخارج لأحببت لقاءه».

الفتح كان هادياً لا جابياً

كان نشر الدين في البلاد التي فتحها المسلمون هو المقصد من الفتوحات الإسلامية، وإن الزكاة كانت فرضا على المسلمين في هذه البلاد، وفرض على غيرهم الجزية مقابلها، كما تفرض الدولة الحديثة الضريبة على من يقيمون فيها، واستثنى منها المسلمون ليتمكنوا من أداء الزكاة، إحدى الفرائض الخمس في الإسلام، فلم يُعف المسلمون منها في هذه البلاد، فلما اشتكى والي مصر، إلى الخليفة عمر بن عبدالعزيز، رضي الله عنه، قلة الجزية، لكثرة من يشهرون إسلامهم من أقباط مصر، طالبا من الخليفة موافقته على وقف تسارع الأقباط الى الإسلام، كتب الخليفة إليه كتابا يقول فيه: «قد وليتك وأنا أعرف ضعفك، وقد أمرت رسولي بضربك عشرين سوطا، فضع الجزية عمن أسلم، إن الله بعث محمداً هاديا ولم يبعثه جابيا».

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.

المستشار شفيق إمام