لم تعد فاجعة الموت الجماعي للمهاجرين اللبنانيين على متن «مراكب الموت» غير الشرعية مجرد حالة فردية أو استثنائية، بل صارت من يوميات البؤس ونتيجة طبيعية لفقدان الأمل في ضمائر الرؤساء والمسؤولين والقيمين على المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، المحلية منها والخارجية.

فعندما تُفقد أبسط مقومات الحياة وتُسلب الكرامة وتهان الإنسانية يصبح الفرار بحراً أكثر لطفاً وأقل إيلاماً من الموت برّاً، وإلا كيف لرب أسرة أن يتحمل عبء ووزر المخاطرة بحياة زوجته وأطفاله بالفرار فيهم الى عباب الصعاب والهلاك المرجّح؟!

Ad

عندما يحتدم النقاش حول ملء الشغور في كرسي رئاسة الجمهورية اللبنانية، تتردد عبارة ممجوجة على ألسنة المتعففين زوراً عن المنصب مفادها أن سعيهم يستهدف بقاء الجمهورية لا الفوز برئاستها، وبالمنطق ذاته يشرع التساؤل عن معنى بقاء الجمهورية بلا جمهور.

معظم الشعب اللبناني صار يعيش تحت خط الفقر، و«جمهور» الجمهورية يعاني أكبر وأشد موجات الهجرة للأدمغة والطاقات المنتجة والشباب المتعلم، وكل من يحالفه الحظ بحمل جواز سفر- صار الحصول عليه نعمة استثنائية- تراه منشغلاً بالبحث في أصقاع الأرض عن فرصة للنجاة بكرامته على حساب تحقيق طموحاته.

لم يسبق للبنانيين- رغم أزماتهم الكثيرة والمتنوعة- أن شهدوا هذا الانهيار الحاد لقيمة الرواتب بالعملة المحلية كنتيجة مباشرة للارتفاع غير المسبوق لسعر صرف الدولار، كما لم تسبق لهم المعاناة من هذا الارتفاع القياسي في أسعار السلع والمواد الغذائية والمحروقات بما يتعدى أحيانا عتبة الـ800 في المئة، ناهيك عن الانقطاع المتكرر للسلع الرئيسة كالقمح والأدوية وحليب الأطفال والمستلزمات الطبية... إلخ.

تشير الإحصاءات الأكثر تفاؤلاً أن أكثر من 75 في المئة من الشباب اللبنانيين يفكرون بالهجرة ويسعون إليها، ويُقدر البنك الدولي أن شخصاً من كل خمسة فقد وظيفته منذ خريف 2019، وأن 61 في المئة من الشركات في لبنان قلّصت موظفيها بمعدل 43 في المئة، ولعل الأخطر في كل ذلك هو ما يشهده لبنان، الذي كان يوماً ما «محجّ التعليم الجامعي» و«مستشفى الشرق الأوسط»، من حركة هجرة للآلاف من العاملين المتخصصين في القطاع التعليمي والقطاع الصحي.

نعم، وللأسف، هذا الوضع المأساوي صار واقع الملايين من اللبنانيين الذين ابتلاهم الله بالسياسة وأهلها، بالطائفية وويلاتها، وبالأحزاب ونهجها الميليشياوي، وبوجودها في عين الصراع العربي-الإسرائيلي... ويبقى الرهان للخلاص على بعض المتغيرات الدولية، الإقليمية والمحلية.

أما على الصعيد الدولي، فبقدر ما ألحقت الحرب الروسية-الأوكرانية من أضرار وتداعيات بكل دول المعمورة، بقدر ما سمحت للبنان بوضع الحد الأدنى من شروطه على طاولة المفاوضات غير المباشرة حول ترسيم الحدود البحرية بينه وبين الكيان الإسرائيلي، وذلك تحت ضغط الحاجة الأوروبية الماسة للنفط والغاز، وهذا ما قد ينبئ بدخول لبنان نادي الدول النفطية خلال السنوات القليلة المقبلة، مما قد يغير المعادلة الاقتصادية بشكل إيجابي، هذا إذا ما حصلت المعجزة وتمت إدارة الملف النفطي بشكل أقل فساداً وأكثر وطنية من الطريقة التي أدير فيها العباد والبلاد في العقود الأخيرة.

أما إقليمياً، فلا يزال الترقب سيد الموقف بشأن مصير المفاوضات الغربية-الإيرانية التي لا بد أن ينعكس نجاحها أو فشلها على الساحة اللبنانية التي تحكمها علاقة حزب الله بالداخل والخارج، وتحت هذا العنوان الحسّاس ومتسع الآفاق تندرج كل السيناريوهات المتناقضة؛ من أكثرها تفاؤلاً الى أشدها سوداوية، وذلك ضمن سلة متكاملة من الخيارات والبدائل التي يتحرك على ايقاعها مصير الشرق الأوسط في سياق الهدف الثابت والوحيد وهو خدمة المصالح الإسرائيلية وبالطبع الغربية.

وعلى المستوى المحلي، ينتظر الكثيرون انتهاء عهد رئيس الجمهورية الحالي ليبدأ خصومه في السياسة بالسماح لبعض المتغيرات الإيجابية أن تحصل، الأمر الذي لم يرتضوا على أنفسهم أن يشفقوا فيه على اللبنانيين خلال فترة العهد المشحون بالكيد الشخصي والمكيدة السياسية والبحث عن بطولات وهمية ومصالح ذاتية من قبل جميع الأطراف! ناهيك عن استعداد الطبقة السياسية- المعلن حيناً وغير المعلن عادة- لسلوك درب الإصلاحات المطلوبة من صندوق النقد الدولي تحت وطأة الخشية الجدية من انفجار الوضع الأمني نتيجة الضغوط الاجتماعية التي تنبري بعض مؤشراتها من خلال مسلسل اقتحام المصارف وقيام الأخيرة باستخدام الإقفال كورقة ضغط وهجوم دفاعي.

وفي هذا السياق الزمني والموضوعي يأتي البيان الثلاثي المشترك بشأن الوضع اللبناني، والذي عبر من خلاله ممثلو كل من المملكة العربية السعودية، الولايات المتحدة الأميركية، والجمهورية الفرنسية عن دعمهم للبنان والتزامهم بالعمل لحماية أمنه واستقراره، متمسكين باتفاق الطائف كضمانة للوحدة الوطنية والسلم الأهلي، ومعتبرين أن إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها ضرورة تتماشى مع الدستور على أن ينتج عنها انتخاب رئيس يتوحد اللبنانيون على تأييده ويكون مؤهلاً ومريداً لاستقطاب الدعمين الإقليمي والدولي لجهود الخروج من الأزمة الحالية، وهذا لن يتم من غير تشكيل حكومة قادرة على سرعة تنفيذ الإصلاحات الهيكلية والاقتصادية المطلوبة، مع تعزيز الدور الحاسم للجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي كمدافعين شرعيين عن سيادة البلاد واستقرارها الداخلي.

تتطلب الواقعية أن يقرأ المرء ما بين سطور الأزمات العالمية والمتطلبات الدولية والمصالح الاستراتيجية، فمستقبل الأمم لا تحققه الشعارات الكاذبة أو «العنتريات» المخادعة، كما أن صلاح الشعوب هو صنيعة الاتـكال على الذات دون عزلة تخنق أو انفتاح يُغرِق.

* كاتب ومستشار قانوني.

د. بلال عقل الصنديد