وسط ذهول ملايين الباكستانيين من أسوأ فيضانات في الذاكرة الحية، تزامنت جهود الإنقاذ والإغاثة الإنسانية، وطنياً ودولياً، مع تطور سياسي لافت، فقد تجدّد تواصل رفيع المستوى بين باكستان والولايات المتحدة بوتيرة بطيئة لكن ثابتة.

لن تتّضح كامل التكاليف البشرية والاقتصادية لأحدث كارثة مناخية في باكستان قبل مرور بعض الوقت، لكن يبدو أن هذه الأزمة منحت إدارة بايدن التبرير المناسب لتجديد التزاماتها الدبلوماسية مع ذلك البلد الذي يملك أسلحة نووية ويقع في منطقة مهمة استراتيجياً.

Ad

يختلف الوضع اليوم عما كان عليه منذ سنة، غداة انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان، اعتبر قادة باكستان طريقة الانسحاب الأميركي شائبة، وعبّر كبار المسؤولين الأميركيين عن استيائهم من باكستان لأنها لم تقنع حركة «طالبان» الأفغانية بالتوصل إلى تسوية سلام عبر التفاوض مع الحكومة السابقة بقيادة أشرف غني، كذلك اعتُبِرت مواقف المسؤولين الأميركيين اللاحقة حول احتمال إضعاف العلاقات مع باكستان شكلاً من العقاب في إسلام أباد، لأن البلد لم يكثّف جهوده لمساعدة الولايات المتحدة في أفغانستان، ولأن رئيس الوزراء السابق عمران خان زار روسيا عشية غزو أوكرانيا.

لكن حين بدأ خان يتهم الولايات المتحدة بمحاولة تغيير النظام في باكستان وافتعل بذلك أزمة سياسية شاملة في إسلام أباد، لم يعد القرار الأميركي بتعليق التواصل مع البلد تدبيراً انتقامياً بل خطوة حذرة دبلوماسياً.

في المرحلة اللاحقة، لم يتردد خان في إبعاد بلده عن الولايات المتحدة والغرب عموماً، وبعد تصويت حجب الثقة من جانب أحزاب المعارضة في باكستان، بدأ رئيس الوزراء المخلوع ينظّم مسيرات ضخمة في مختلف المدن الباكستانية.

قد تكون مزاعم خان حول رغبة الولايات المتحدة في تغيير النظام مستبعدة، لكنه كان محقاً جزئياً حين ادعى أن قرار الجيش الباكستاني بسحب دعمه له هو الذي أطلق مسيرة تغيير الحكومة في شهر أبريل، ففي البداية، شارك الجيش في تسهيل فوز خان في الانتخابات عام 2018، لكن يقال إنه استاء من ارتفاع كلفة سياسات خان الشعبوية التي كانت تستغل المشاعر المعادية للولايات المتحدة لحصد الدعم المحلي.

على عكس خان، يعتبر الجيش الباكستاني العلاقات مع الولايات المتحدة أساسية للحفاظ على أهمية باكستان الجيوسياسية ولحماية استقرار الاقتصاد المتدهور ودرء أزمة السيولة الحادة، ولتحقيق هذه الغاية، تقضي أول خطوة اتخذتها حكومة شهباز شريف بالانقلاب على سياسة دعم الوقود والكهرباء التي طبّقها خان رغم غياب التمويل المناسب، فقد كان هذا التدبير يهدف إلى تسهيل استئناف المفاوضات بين باكستان وصندوق النقد الدولي حول برنامج بقيمة 6.5 مليارات دولار، بعد توقفها طوال سبعة أشهر.

على الجانب الأميركي، تزامن استئناف برنامج صندوق النقد الدولي مع ظهور مؤشرات أخرى تثبت استعداد البلد لإعادة إحياء العلاقات الثنائية، وترافقت الفيضانات المدمّرة مع عدد من الزيارات الرسمية ورفيعة المستوى من واشنطن، بدءاً من مستشار وزارة الخارجية الأميركية، ديريك شوليت، الذي أعلن إنشاء جسر جوي إنساني طوال عشرة أيام نحو باكستان وتقديم حزمة إغاثة بقيمة 30 مليون دولار، وصولاً إلى زيارة يحمل توقيتها أهمية استراتيجية كبرى من مديرة وكالة التنمية الدولية الأميركية، سامانثا باور.

في الوقت نفسه، أعلنت وزارة الخارجية الأميركية موافقتها المبدئية على بيع معدات صيانة لطائرات «إف16» وقطع أخرى ذات صلة لباكستان، بموجب صفقة تصل قيمتها إلى 450 مليون دولار، تمهيداً لتحقيق أهداف مشتركة في مجال مكافحة الإرهاب، وهذه الخطوة تكبح قراراً سابقاً كانت قد اتخذته إدارة ترامب لإنهاء برنامج الدعم التقني والتكنولوجي للأسطول الباكستاني، وشَهِد هذا الصيف أيضاً تعيين سفير دائم في باكستان بعد غياب دام أربع سنوات (ترك آخر سفير دائم منصبه عام 2018).

عملياً، يصعب فصل التحوّل الجذري في استعداد الولايات المتحدة للتواصل مع باكستان عن التغيير الحكومي الذي شهده البلد خلال هذا الصيف، وفي محاولة لإعادة بناء العلاقات مع السلطات الباكستانية، يقال إن خان يفكر راهناً بتعديل موقف حزبه المتطرف من الولايات المتحدة، فهو لم يستفد أصلاً من ذلك الموقف المتشدد لأنه لم يلقَ تجاوباً وسط الشتات الباكستاني الأميركي الواسع الذي يشكّل جزءاً أساسياً من قاعدة مناصري خان.

وسيضطر خان لمتابعة تحديد المعايير التي يعتبرها مقبولة في هذه العلاقة، وفي مقابلة تلفزيونية عام 2021 مثلاً، قال خان إن باكستان «لن تسمح» لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية باستعمال القواعد على أراضيها لإطلاق مهام مكافحة الإرهاب عبر الحدود بعد انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان، إذ تُجمِع معظم الأحزاب من جميع الانتماءات السياسية في باكستان على هذا التوجه، لكن عقد مسؤولون رفيعو المستوى من البلدَين نقاشات استكشافية حول الطرق المناسبة لتعزيز الأمن وآليات مكافحة الإرهاب في المنطقة، ولم تتّضح بعد طبيعة تلك الآليات، لكن تبقى الخيارات المحتملة محدودة في هذا المجال، ففي الشهر الماضي، قتلت الولايات المتحدة زعيم «القاعدة»، أيمن الظواهري، خلال ضربة جوية بطائرة مسيّرة في أفغانستان، مما دفع حركة «طالبان» الأفغانية إلى اتهام باكستان بالسماح باستعمال مجالها الجوي لتنفيذ الضربة.

أنكرت وزارة الخارجية الباكستانية هذا الادعاء سريعاً، لكن من المتوقع أن يتجدد النقاش حول نطاق التعاون الأميركي الباكستاني في مجال مكافحة الإرهاب، واستعداد الجيش الباكستاني للسماح للولايات المتحدة بالعودة إلى البلد ميدانياً وجوياً بعد استئناف بيع قطع غيار طائرات «إف16».

قد تعطي أي شراكة محتملة منافع مهمة للولايات المتحدة، فمن خلال تجديد التواصل مع باكستان، ستتمكن واشنطن من تنويع استثماراتها في جنوب آسيا ومنطقة المحيطَين الهندي والهادئ، إنها ميزة مهمة نظراً إلى إصرار الهند على متابعة علاقاتها مع روسيا رغم حربها في أوكرانيا، مما قد يدفع البعض في واشنطن إلى التشكيك بمصداقية الهند على المدى الطويل كشريكة أساسية للولايات المتحدة في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، ولا تزال الهند شريكة مهمة لواشنطن بشكل عام، لكن لم تنجح الولايات المتحدة في تغيير موقفها من روسيا، فحتى الآن، يُصِرّ المسؤولون الأميركيون على موقفهم المرتبط ببيع قطع غيار طائرات «إف16» إلى باكستان رغم انتقادات الهند، مما يثبت على الأرجح أنهم لا يعارضون استمرار هذا الوضع.

بالعودة إلى باكستان، كان خان ذكياً بما يكفي لرصد هذا التحول في المواقف، فحين تتراجع درجات الحرارة وتنحسر الفيضانات تدريجاً، قد يعدّل خان خطابه المعادي للولايات المتحدة، ولو على مضض، إذ تكمن المشكلة الحقيقية في شعبية خان الواسعة داخل باكستان حتى الآن، لذا يتوقع الكثيرون أن يعود إلى السلطة بعد الانتخابات العامة المقبلة، مع أو من دون دعم السلطات المحلية، وفي هذه الحالة، سيضطر الجيش الباكستاني لتحديد موقفه من خان بعد عودته إلى السلطة: هل سيتعامل معه كصديق أم عدو؟ لا مفر من أن ينعكس التعامل معه كعدو سلباً على العلاقات المدنية العسكرية في البلاد. حتى أن هذا الوضع لن يفيد جهود باكستان الرامية إلى إعادة إحياء علاقتها المعقدة مع الولايات المتحدة على المدى الطويل.

* ● فهد همايون

Foreign Policy