عطفاً على مقالاتنا على هذه الصفحة بتاريخ 20 و29 (أغسطس) و3 و11(سبتمبر) الجاري فإن اصطلاح الثورة هو اصطلاح أطلقه الفكر السياسي المعاصر ‏على الانتفاضات الجماهيرية التي تهدف إلى إحداث تغييرات جذرية ‏فجائية في المجتمع، بتغيير نظام حكم قائم لتحقيق أغراضها، وحلول ‏طبقة أو جماعة أخرى محل تلك التي كانت تحكم المجتمع، ويصاحبها ‏عادة عنف، ومن هنا لم توصف الديانات السماوية بالثورات، بالرغم من ‏التغييرات الجذرية التي أحدثتها في المجتمعات، وانتشارها في العالم كله ‏على المستوى الديني، لأن من صنفوا الثورات كانوا مفكرين سياسيين، ‏ولم يكن للدين أثر في حساباتهم أو في حساب هذه الثورات، لأن ‏أكثر التفسيرات النظرية للثورات اعتبرت الثورة أداة من أدوات التغيير خاصة ‏أن بعضها كان ثورة على ظلم الكنيسة في العصور الوسطى وعلى ‏اسبتداد الملوك الذين كانوا يستندون إلى الحق الالهي أو التفويض الإلهي، ‏وأن بعضهم اعتبر الدين عائقا دون قيام الثورة، ووصف بعضهم ‏الدين أنه أفيونة الشعوب، أما الفقه الإسلامي المعاصر، قديمه وحديثه، فإنه ‏لم يُعنَ بالثورات أصلا وأساسا، لأنه يؤمن بالطاعة لولي الأمر، وإن كان ‏البعض يرى جواز عزل الحاكم سلمياً إلا أن الإسلام، وإن جمع بينه ‏وبين الأديان السماوية الأخرى، أنها جميعاً من عند الله تعالى، إلا أنه ‏يتميز عنها جميعاً بأنه عقيدة وشريعة، لم يقتصر على مبادئ الأخلاق ‏وقواعد السلوك الاجتماعي كما فعلت الديانات السماوية الأخرى، بل ‏امتد إلى أصول المعاملات بين الناس، وإلى الشورى في الحكم والعدل ‏والقضاء، حتى أن كتابا من عشرات الكتب التي صدرت في العالم ‏الغربي عن عظمة وحضارة الإسلام والمسلمين، وصف مؤلفه الأميركي ‏‏(مايكل هارت) عن الرسول محمد عليه الصلاة والسلام في كتابه (الخالدون ‏المئة) بأنه: ‏

«‏1-‏ أعظم الشخصيات أثراً في تاريخ الإنسانية كلها. ‏

Ad

‏2-‏ وأنه أعظم زعيم سياسي عرفه التاريخ».

ويبرر مايكل اختياره محمداً (صلى الله عليه وسلم) على رأس قائمة الخالدين المئة، ‏«فهو أولهم وأعظمهم بما حققه المسلمون بسبب إيمانهم بالله وكتابه ‏ورسوله من إقامة إمبراطورية واسعة ممتدة من حدود الهند حتى ‏المحيط الأطلسي، وهي أعظم إمبراطورية أقيمت في التاريخ، وأن ‏الدول التي انفصلت عنها ظلت على إسلامها، فيما عدا إسبانيا». ‏‏(الخالدون المئة– مايكل هارت، ترجمة أنيس منصور – إصدار ‏المكتب المصري الحديث ص13-19).‏

طبيعة الثورة الإسلامية ‏

فلم تكن مكة التي ولد فيها الرسول (صلى الله عليه وسلم) وبدأ فيها نزول الوحي ‏عليه بكتاب الله الكريم، وبدأ فيها الرسول التبليغ بدين الإسلام، سوى ‏منطقة متخلفة عن العالم، بعيدة عن مراكز التجارة والحضارة والثقافة ‏والفن، وهي المراكز التي تنتشر فيها الأفكار والميول السياسية، التي ‏تدفع فريقا من الناس إلى القيام بانتفاضة جماهيرية لإزالة حاكم طاغية ‏أو تغيير نظام حكم قائم، فقريش وأهلها لم يكونوا يتحدثون في انتقالهم ‏للتجارة وجلب العروض وترحالهم واستقرارهم ثم بيعها وتوزيع ‏أرباحها على أصحاب الأموال إلا عن جمع المال وتشغيله وتنميته، ولم يكن مجتمع الجاهلية يؤثر على تجارته بشيء من تغيير جذري ‏في نمط حياتهم، مما تتنادى به المجتمعات التي ينمو بها الفكر النقدي ‏أو الثوري، التي تتفجر منها الثورات.‏

ويقول عميد الأدب العربي د. طه حسين في كتابه (مرآة الإسلام): ‏‏«ومن الحق أن قريشا كانت تتصل اتصالا منتظما بالبلاد المتحضرة ‏بحكم أسفارها في التجارة، ولكن الحضارة لا تنقل من مكان إلى مكان كما تنقل العروض وإنما تنشأ في بيئة من الأرض ثم تقوى وتشتد ويزيدها ‏الاتصال بالأمم المتحضرة نمواً وازدهاراً»‏.

وإن الحرية التي تتنادى بها الشعوب في الثورات،كما يقول الأديب ‏الكبير والسياسي الراحل عباس محمود العقاد «كانت تعيشها ‏القبائل من البادية في جوف الصحراء لم تنعم بها لأن أحداً أرادها ‏وشرع مبادئها، بل نعمت بها لأن أحداً لم يرد منعها ولم تكن لأحد ‏مصلحة في تقييدها والاعتراض عليها».

(الديمقراطية في الإسلام– ‏دار المعارف– ص36-37) ‏

وهو مجتمع وثني، لكل قبيلة صنم، وقد يعبد العربي أكثر من صنم، ‏والوثنية لم تكن قصرا على الجزيرة العربية، فقد وجدت قبل ميلاد ‏المسيح بنحو خمسمئة عام، كما أشار إلى ذلك هيرودوت (484 ق.م) ‏إلا أن البيت الحرام في مكة كان مباءة الأصنام، وقد بلغ عدد الأصنام ثلاثمئة وستين صنماً عند فتح مكة بجيوش المسلمين، وليس بين القبائل ‏عامة وبين رجال الديانتين السماويتين اللتين سبقتا الإسلام تواصل إلا ما ‏قد يصحب أسفار القوافل، وأفكارهما الدينية، احتكار على القساوسة ‏والرهبان.‏

والواقع أن العرب لم يكونوا ينكروا أن للسموات والأرض خالقاً وهو الله، ‏فلم يكن المشركون يجحدونه ولم يكونوا يعبدونه وحده، وإنما يعبدون معه ‏آلهة أخرى يتخذونها واسطة بينهم وبينه هي هذه الأصنام، وهم يرضون ‏عنها حين ترضيهم ويسخطون عليها حين تسخطهم زاعمين أن آلهتهم ‏لم تستجب لهم ولم تُعنهم، فكانت هذه الوثنية من السذاجة والسخف، ‏بحيث لم تقف عقبة أمام من نزل عليهم القرآن الكريم بالبينات من قصص ‏الأنبياء المرسلين ومنها قصة أهل الكهف وقصة الذي مر على قرية ‏وهي خاوية على عروشها، ففيها من العبر والعظة ما يبدد الغشاوة عن ‏أعين الوثنية والقرآن فيما يعرض من العلوم الكونية، والظاهر من ‏وجودها المادي الطبيعي بما يعين على الإيمان بعظمة الخالق جلّ وعلا، ‏ويكشف عن بديع صنعه وعما أودع الله هذا الكون من المنافع والفوائد ‏لبني الإنسان وطريق الإفادة من النعم والخيرات التي خلقها الله في ‏الأرض والسماء وفيما بين ذلك، وفي هذا السياق يقول المولى عز وجل: ‏‏«قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ». (سورة يونس 101)، وقوله عز وجل: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ* الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ». (آل عمران 190- 191).‏

كما لم يكن بمكة أو الجزيرة العربية طاغية يدير أمورها رغما عنها بل ‏كانت قبائل عربية لها سادة وشيوخ يحسمون الخلافات بين التجار، وكذلك ‏بين الأفراد، ولم تكن لطبقة من الطبقات التي تضمهم القبائل الأغنياء أو ‏الفقراء أو العبيد ما يدور بخلدها من أفكار السياسة ودروبها ودهاليزها ‏التي تنشأ في أحضانها الثورات.‏

ثورة في سبيل الله ‏

يقول المولى عز وجل في سورة التوبة: «انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ». ويقول الله سبحانه في سورة الفتح: «إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً»، ويقول عز من قائل: «وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً».‏ ويقول المولى عز وجل في كتابة الكريم: «إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ* وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً».‏

والبين من قراءة هذا النص القرآني الأناة والتمهل في فهم المعاني التي ‏أرادها الله أن تصل إلى الناس، عبر آيات هي من أكثر الآيات قصراً ‏وأغزرها في المعاني التي اشتملت عليها، والمتسقة أروع اتساق، بما ‏اختصت به الفتوحات الإسلامية، بهدف واضح ومحدد هو نشر الدعوة ‏الإسلامية، بدخول الناس أفواجاً في دين الله، وما النصر فيها إلا من عند ‏الله تعالى، مهما بلغت قوة وأعداد وعتاد من يشركون به، ومهما كان فينا من ‏ضعف وقلة حيلة، اتساقا مع قوله تعالى: «كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ»، وهو المعنى المستفاد من عبارة «إذا جاءكم نصر الله ‏والفتح»، أن الفتح المتوج بالنصر يأتي من قوة الإيمان بهذا الدين.‏

وقد عرف الدين فضيلة الإمام محمد أبو زهرة أحد علمائنا الأفذاذ بأنه الذي ‏أوصى به أنبياءه جميعا في قوله تعالى: «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ». (الشورى 13)‏

فالفتح الإسلامي لم يكن أبدا للقضاء على الديانة المسيحية أو الديانة ‏اليهودية ولا للقضاء على غيرهما، وقد أقر حرية العقيدة في قوله تعالى: «لا إكراه في الدين».‏ فالفتح الإسلامي إذاً لم يكن كالحرب الصليبية، التي أعلنها من أمام كيب ‏كليرمون في فرنسا في اليوم التاسع والعشرين من نوفمبر سنة 1095م ‏البابا أربان الثاني عندما دعا المسيحيين أجمعين للانتظام في جيش واحد ‏للقضاء على المسلمين الكفرة.‏

ومن فرنسا انتقل البابا إلى إيطاليا، ومنها إلى ألمانيا لنشر دعوته إلى إهدار ‏دماء المسلمين، بين الدهماء والرعاع، ورغبهم بالرخاء والنعيم في بلاد ‏المسلمين، فتسابقت أوروبا كلها لندائه، فسارت جحافلهم وجيوشهم من ‏فرنسا وإيطاليا وهي تعبر أوروبا ما يصادفها من مدن فتنهب كنائسها وأموال ‏أهلها فقد كانوا في الحرب الصليبية الأولى مغامرين وطامعين في المال ‏ومتعطشين إلى سفك الدماء، وعلى العكس من ذلك كان الفتح الإسلامي ‏نصراً، فالفتح الإسلامي الذي بشر به القرآن الكريم باعتباره نصراً من ‏الله تعالى، يقوم على التسامح، وقد صدق الإسلام بالرسالات السماوية ‏جميعا التي سبقته وبالأنبياء والرسل، الذين جاؤوا قبل سيدنا محمد صلى الله ‏عليه وسلم، نوح وهود وشعيب ولوط ويعقوب وإسحق والأسباط ‏ويوسف وموسى وعيسى، وكل هؤلاء دعوا إلى التوحيد.‏

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.‏

المستشار شفيق إمام