بعد مرور ستة أشهر على إقدام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على إطلاق غزو غير مبرر ضد بلد أوروبي ديموقراطي، بدأ الغرب يدرك واقعاً صادماً: لقد عاد مفهوم الدولة القومية إلى الواجهة، وأصبحت المؤسسات التي نشأت في الأصل لاحتواء الأطراف الفاسدة هشة جداً، ومنحت التكنولوجيا أشكالاً جديدة من النفوذ للأنظمة الاستبدادية، وبدل أن يقضي الهجوم ضد أوكرانيا على النزعة القومية، يبدو أنه يطلق وجهة جديدة لكسب النفوذ.

اليوم، أصبحت المخاطر التي كانت محتملة شبه مؤكدة، وتبدو المخاوف التي تحملها دول البلطيق من روسيا مبررة، ولم يعد الحياد الذي تفاخرت به فنلندا والسويد لفترة طويلة يناسب الظروف القائمة، حتى تهديدات بكين ضد تايوان لم تعد مجرّد أداة استعراضية بل أصبحت أشبه بمرحلة تحضيرية لما سيحصل قريباً.

Ad

في غضون ذلك، تبدو قوة الرد الدولي على العدوان الروسي لافتة بالقدر نفسه، فطوال سنوات، أوضحت موسكو طبيعة خططها (هجمات سيبرانية على إستونيا في عام 2007، واحتلال جورجيا في عام 2008، ومهاجمة أوكرانيا في عام 2014)، ومع ذلك تعامل الغرب وأوروبا مع هذه الأحداث وكأنها تطورات عادية، لكنّ الوضع الراهن مختلف، تُعبّر الحكومات، من طوكيو إلى استوكهولم، عن دعمها القوي لأوكرانيا عبر تقديم المساعدات العسكرية وفرض عقوبات اقتصادية غير مسبوقة على روسيا.

لقد تزعزع النظام العالمي بكل وضوح، وتثبت أحداث السنة الماضية أن العالم انتقل إلى حقبة جديدة من السياسات الوحشية بين القوى العظمى، واليوم تتركّز الديموقراطيات الغربية في عالمٍ تعجز فيه المؤسسات متعددة الأطراف عن تحقيق الوعود التي أطلقتها سابقاً حول إرساء الأمن أو الاستقرار، ففي ما يتعلق ببلدٍ مثل بريطانيا، حيث يرتكز النموذج الاقتصادي والدبلوماسي على مكانة البلد ككيان مرتبط بالعالم، يطرح انعدام الاستقرار المستجد تهديداً خطيراً.

حتى الفترة الأخيرة، بدا الرد البريطاني على هذا العالم المتناقض الجديد غير مناسب بأي شكل، وتحددت معالم السياسة الخارجية البريطانية بعد عقود من العولمة غداة حقبة الحرب الباردة، لكنها وجدت نفسها اليوم غير مستعدة للتعامل مع توسّع الاستبداد واحتدام الصراعات الجديدة التي ترافق هذه الموجة، كذلك أصبح البلد معرّضاً لأشكال جديدة من الضغوط الخارجية القادرة على إضعاف أسسه الاقتصادية بسبب اتكاله على الآخرين لتلقي إمدادات الطاقة والتكنولوجيا.

في معظم الأوقات، ردّت المملكة المتحدة على هذه التطورات عبر تجاهل المشكلة أو الانغلاق على نفسها، لكن يجب أن يستغل البلد نقاط قوته التقليدية التي ترتكز على التواصل مع الآخر، والجهود الدبلوماسية، وفرض النفوذ، عبر البحث عن أنواع جديدة من الشراكات مع الحلفاء الحاليين وقوى مستقبلية أخرى، لكن يُفترض أن تتزامن هذه المقاربة مع الحد من التعامل مع القوى الخبيثة وبناء قوة اقتصادية متينة محلياً، حيث يصعب تحقيق هذين الهدفَين معاً، لكنّ غيابهما قد يحوّل بريطانيا إلى بلد تابع للنظام العالمي الجديد، وقد بدأت تكاليف الحفاظ على الوضع الراهن تتّضح منذ الآن، وهي لا تقتصر على توسّع انعدام الأمان في مجال الطاقة أو تفاقم المشاكل الاقتصادية، بل تظهر أيضاً في التآكل التدريجي للقيم الليبرالية التي ترتكز عليها الحريات.

تتكل بريطانيا مثلاً على تايوان لتأمين أشباه المواصلات، وعلى منطقة «سيليكون فالي» لتلقي البيانات وخدمات أخرى كثيرة، لكن رغم دعم الأصدقاء والحلفاء، يجب أن تفكر الحكومة البريطانية بنقاط الضعف الخفية في سلاسل إمداداتها. يتكل جزء كبير من قطاع الخدمات على مجموعة ضيقة من الشركات، مما يزيد المخاطر المطروحة على الاقتصاد.

تعني قوة التحمّل الاقتصادية معالجة نقاط الضعف البنيوية التي تُرسّخ نزعة الاتكال على الآخر، ومع عودة المنافسة بين القوى العظمى، من المتوقع أن تتكرر الحروب الاقتصادية، لذا يجب أن تبني بريطانيا دفاعاتها على هذا الأساس، فلا يستطيع البلد أن يتكل على سياسة خارجية مستقلة وقوية قبل أن تصبح أسس الدولة أقل عرضة للصدمات.

يُعتبر قطاع الطاقة الأبرز في هذا المجال، حيث ترتكز العقلية البريطانية في هذا القطاع على فرضية كامنة مفادها أن الوصول إلى أسواق الغاز العالمية قد يمنحها الحماية التي تحتاج إليها لفرض تخفيضات مؤلمة وضرورية لكبح انبعاثات الكربون بالكامل، لكن نقاط ضعف هذه المقاربة اتّضحت حين بدأت روسيا تستعمل أسعار الطاقة كسلاح بحد ذاته.

يجب أن ينتج البلد كميات إضافية من الطاقة محلياً، ويمكنه أن يفعل ذلك عبر السماح بفتح عدد متزايد من محطات الطاقة النووية وتقوية القطاع النووي المحلي، مما يعني تسريع استعمال مصادر الطاقة المتجددة عبر تقصير المدة اللازمة لإنشاء البنى التحتية أو تحديثها، أو عبر دعم استكشاف البحر الشمالي من خلال منح تراخيص إضافية، لكن تتعلق خطوة عاجلة أخرى على الأرجح بتعاون بريطانيا مع شركاء مثل كندا لتسهيل استكشاف موارد الطاقة وتصديرها من جانب البلدان الديموقراطية لضمان تلقي الوقود الأحفوري من الحلفاء، لا الأعداء.

ينطبق المبدأ نفسه على مجالات أخرى تشهد شحّاً واضحاً، بدءاً من أشباه الموصلات وصولاً إلى المعادن الأساسية، فقد بذلت الصين جهوداً حثيثة لاحتكار هذه القطاعات، وقد تنجم هذه الخطوة في أفضل الأحوال عن رغبة بكين في حماية حاجات سوقها المحلي، لكنها ترغب منطقياً في فرض قوتها الاقتصادية لكسب النفوذ والتفوق على خصومها، فلم تبذل بريطانيا حتى الفترة الأخيرة أي جهود فاعلة لحماية صناعاتها الأساسية، مع أن خصومها لا يكفون عن سرقة الملكية الفكرية والابتكارات البريطانية.

تتطلب هذه المشكلة تدقيقاً مضاعفاً بالعمليات الخارجية، حيث يقدّم «قانون الأمن القومي والاستثمار» الجديد الصلاحيات التي يحتاج إليها البلد، ويُفترض أن يتمكن الآن من استعمالها وأن يتجاوز الآثار المترتبة على السوق وصولاً إلى استكشاف أعمق تداعيات أي صفقة دولية، وتتطلب هذه الخطوة فهم القطاعات التي تستحق الحماية في مجال العلوم والابتكار في بريطانيا، وتُعتبر استراتيجية المعادن الأساسية، التي أعلنتها الحكومة في يوليو الماضي، خير مثال على المقاربة المطلوبة لتحديد المجالات الضعيفة استراتيجياً ومعالجتها، فهي تُحدد الطريقة التي سيعتمدها البلد لتأمين سلاسل الإمدادات الخاصة بتلك الموارد، واليوم، تبرز الحاجة إلى نهج مماثل في قطاعات مثل أشباه الموصلات وعلم الأحياء التركيبي.

في المقام الأول، تستطيع بريطانيا أن تزيد قوة تحمّلها عبر تعزيز شراكاتها الاستراتيجية مع أهم الشركاء الديموقراطيين، فقد سبق أن أثبتت شراكتها مع الولايات المتحدة في مجال الاستخبارات والتكنولوجيا النووية أن الحلفاء الجديرين بالثقة يشكّلون قوة مضافة ويستطيعون تخفيض التكاليف، وعلى نطاق أوسع، قد تنشأ شبكة تجارية أكثر تكاملاً لتخفيف الاتكال على المصادر الشائبة، وتكشف التجارب التاريخية أن التجارة لا تهدف إلى جني الأرباح بكل بساطة، وتستطيع بريطانيا والولايات المتحدة أن تطرحا محوراً جديداً للنمو عبر تقوية خدماتهما بطريقة تضمن تعزيز الترابط والتنمية في جميع أنحاء العالم، مما يزيد الأعباء على شبكات الديون الصينية، وبدءاً من الدول الفردية وصولاً إلى الحكومة الفدرالية، قد يسمح هذا الانفتاح المستجد بتحسين الرعاية الاجتماعية لمصلحة المواطنين الأميركيين والبريطانيين ويفتح الأسواق أمام ملايين الناس.

لكن لا تقتصر هذه المقاربة على كبار الحلفاء، ففي ظل التهديدات المتزايدة التي تطرحها الأنظمة الاستبدادية في السنوات الأخيرة، قررت بلدان عدة أخذ زمام المبادرة، ودفاعاً عن الديموقراطية، اتخذت ليتوانيا موقفاً واضحاً وقوياً دعماً لتايوان. وحددت إستونيا معايير جديدة للحوكمة الرقمية، فأصبحت رائدة عالمياً في مجالات تتراوح بين الخدمات الرقمية العامة والأمن السيبراني، حتى أنها تستضيف «مركز التميز للدفاع السيبراني التعاوني» التابع لحلف الناتو منذ عام 2008، وهو يسمح لأعضاء الحلف بتقاسم المعلومات وتطوير استراتيجيات جديدة للتصدي للحروب السيبرانية، وفيما يتعلق بهذين البلدَين، قد يسمح الدعم البريطاني القوي بتوسيع نطاق تلك الجهود وتسهيل خدمة الشعوب فيهما وفي بريطانيا أيضاً، ومن خلال دعم هذا النوع من المبادرات، تستطيع الحكومة البريطانية أن تقوي حلفاءها، وتُرسّخ الاستقرار، وتدعم القيم الديموقراطية.

هذه الخطوات لن تؤثر على بريطانيا وحدها، بل إنها تنعكس على مصير الديموقراطية والحرية وقوة التحمّل العالمية، وتبقى الديموقراطيات أقوى من الأنظمة الاستبدادية بسبب قدرتها على التكيّف مع الظروف وإعادة بناء نفسها، ويمكنها أن تغيّر وجهتها وتستعيد توازنها، فتعكس بذلك نقاط الضعف البنيوية التي تضخّها القوى الاستبدادية المركزية في الاقتصادات الغربية المتداخلة، مما يؤدي إلى تقوية مختلف المجتمعات، لقد أصبحت القيم الأساسية في المجتمعات المنفتحة على المحك، لا سيما الحق في اختيار وتغيير القادة ووجهة البلد، والحق في الانتقاد وتصحيح المسار، والحق في خوض التجارب وتحقيق النجاح أو حتى الفشل، إنها قيم مفيدة لأي بلد، بغض النظر عن طريقة حُكمه.

لا مفر من توسّع الشرخ بين مختلف الأطراف نتيجة تقسيم العالم المترابط إلى دول قومية تزداد ثقة بنفسها، لكن يمكن تحويل هذا الوضع إلى نقطة قوة لمصلحة ديموقراطيات العالم عبر تفعيل أشكال جديدة من التعاون، فتتشجّع هذه الدول على بناء شبكات جديدة محورها المنافسة والقيم، مما يسمح للغرب باكتساب القوة التي يحتاج إليها، حيث تستطيع بريطانيا أن تضطلع بهذا الدور تزامناً مع بناء تحالفات وشراكات أكثر فاعلية، لكنها لن تنجح إلا إذا اعترفت بحجم التحديات المطروحة وحرّكت القوى اللازمة لتحقيق هدفها.

*توم توغندات

Foreign Affairs