يشير موت الملكة إليزابيث الثانية إلى نهاية حقبة كاملة من تاريخ المملكة المتحدة، وقد ينذر أيضاً بنهاية المقاربة التي جسّدتها للتعامل مع السياسة العالمية: يرتكز هذا المفهوم على عالم موحّد يكون أشبه بعائلة أو مجتمع متماسك.

كانت الملكة تؤمن بالعلاقات التي يقيمها بلدها مع الدول الأخرى وتعمل على تقويتها، وقد أعطت أهمية خاصة لدول الكومنولث، وهي مجموعة فضفاضة من البلدان التي كانت بريطانيا تحكمها في الماضي، كذلك، لطالما تكلمت الملكة عن هذه العائلة الجامِعة والعلاقات المتوسعة والروابط العابرة للأجيال. قد لا تكون هذه الرؤية مفاجئة بالنسبة إلى امرأة تأثرت مسيرتها وخياراتها دوماً بعائلتها وعكست طبيعة حياتها وعصرها.

Ad

في الحقبة الحديثة، كانت الملكة تحمل منظوراً أخلاقياً حول العولمة، ففي بريطانيا المعاصرة، يرتفع عدد من يعتبرون روابط البلد في الخارج مجرّد فرصة تجارية، أو مصدر لكسب النفوذ الاستراتيجي، أو مشاكل يمكن تجاهلها، لكن اعتبرتها الملكة واجباً بحد ذاته، ولم تكن العلاقات بين دول الكومنولث مجرّد مجموعة من التدفقات التجارية وعمليات بيع الأسلحة من وجهة نظرها، بل إن مكانة بريطانيا في العالم كانت تتمحور برأيها حول الروابط بين الناس ولا تقتصر على النُخَب، أو الشركات، أو الدول، أو الأنظمة الملكية، رغم أهمية هذه الكيانات.

تأثرت هذه النظرة طبعاً بإيمانها الديني، وتاريخها العائلي، وخبرتها في زمن الحرب، وكانت تتعلق جزئياً بخدمة الآخر، حيث ألقت الملكة في خطابها في «كيب تاون»، جنوب إفريقيا، في ميلادها الحادي والعشرين عام 1947، كلمة أصبحت اليوم بالية وبغيضة فقالت: «أنا أعلن أمامكم أنني سأكرّس حياتي كلها، سواء كانت طويلة أو قصيرة، لخدمتكم وخدمة عائلتنا الملكية العظيمة التي ننتمي إليها جميعاً».

لكن كان البلد الذي قادته الملكة يستغل الشعب الذي يحكمه ويقمعه ويحرمه من حقوقه في معظم الأوقات، ولم يكن تعاطفها العلني مع الآخرين كافياً لمنع هذه الممارسات. بعبارة أخرى، لم تكن معاييرها الأخلاقية واهتماماتها تتماشى دوماً مع الوقائع الميدانية.

لكنها كانت تتقبل من ينتقدون الماضي الإمبريالي أكثر من المعسكر الذي يتجاهل التاريخ بالكامل، وتبنّت الملكة مقاربة أخلاقية في تعاملها مع العالم ومشاكله، وكانت رؤيتها تشتق جزئياً من اقتناعها بأن الناس يتبادلون المسؤوليات في ما بينهم. أعلنت الملكة، في خطاب لها أمام دول الكومنولث هذه السنة: «علاقاتنا هي التي تقوينا وتحمينا، وقد تشرّفتُ طوال حياتي بسماع المواقف التي تُعبّر عن أهمية العلاقات القائمة في أنحاء دول الكومنولث بالنسبة إلى الشعوب والمجتمعات، ولا تزال عائلتنا الأممية نقطة تواصل وتعاون وصداقة، إنه مكان للتلاقي، وتحقيق الأهداف المشتركة في سبيل المصلحة العامة، ومنح جميع الأطراف فرصة الخدمة والاستفادة».

لا شك أن علاقات بريطانيا العالمية ستستمر على مستويات عدة، لا سيما في المجالات المالية، والاقتصادية، والسياسية، فتبقى وفاة الملكة إذاً مجرّد لحظة عابرة من الزمن، رغم الحزن الذي يرافقها، إذ ترتبط بريطانيا بعلاقات وثيقة ومستمرة مع عدد كبير من الدول في إفريقيا، ومنطقة الكاريبي، وآسيا، والشرق الأوسط، وتتعلق هذه الروابط عموماً بنفوذ بريطانيا وتبادلاتها التجارية العملية، لكن قد يبدأ الشعور بوجود روابط أخلاقية وعائلية وشخصية بالتلاشي تدريجاً، وربما كان هذا المفهوم عاطفياً أكثر مما هو واقعي، لكن لطالما عبّرت الملكة إليزابيث الثانية عن اقتناعها الشديد به، فبالنسبة إليها، كان الحس الأخلاقي تجاه العالم (أي الامتنان المتبادل، والمكاسب التي يمكن حصدها عبر تحقيق أهداف مشتركة) أسمى شكل من الواجبات، ويبدو أنها نقلت هذا المفهوم على الأقل إلى ابنها الذي أصبح الآن الملك تشارلز الثالث.

* أندرو ر. مارشال

The Atlantic