على أثر معاينته للواقع اللبناني الذي تتجاذبه المصائب وتتقاذفه الويلات من كل صوب، كتب الصحافي المميز «حمزة عليان» عن تناقضات يعيشها المجتمع اللبناني تسترعي الانتباه وتستدعي القلق من فقدان لبنان عناصر القوة التي امتلكها لعقود غابرة وجعلته «سويسرا الشرق»، مما يضع هذا البلد الصغير أمام تحدّ مصيري ومهمة مستعجلة عنوانها العريض: البحث عن دور جديد يعيد له حضوره في المنطقة والعالم ويستعيد معه وضعه الطبيعي بين الأمم المتحضرة.

أتفق مع أستاذنا الكبير في خلاصة مشاهداته، وأشاطره قلقه وأشاركه دعوته لاستعادة الوجه المشرق للبنان، فحالة التناقض التي يعيشها الشعب اللبناني لا تجرّ عليه إلا المزيد من الانحدار، وحالة النكران التي يتجاهل من خلالها مرارة يومياته تحت شعار «بدنا نعيش» لن تستطيع بأي حال من الأحوال أن تحول الجحيم الى النعيم.

Ad

فبعيداً عن نظرية المؤامرة، ودون تبرئة ساحة الطبقة السياسية من فجور خباياها ووقاحة نواياها، فإن الشعب اللبناني في واقع الأمر يجني ما ساهم في زرعه، إذ إنه على الصعيد السياسي يحصد ما بذره في صندوق الاقتراع، وعلى الصعيد الاقتصادي يدفع ثمن الرفاهية المخادعة التي عاشها أو لهوه بها لعقود من الزمن، وعلى الصعيد الاجتماعي فهو يتلقى سهام الانتمائية العمياء والتبعية المذلة التي قوّض من خلالها هيبة دولته وتنكّر معها لواجب وطنيته!

ورغم سوداوية المشهد، يبقى لبعض اللبنانيين المبدعين دور بارز في صناعة الأمل والمراهنة على مستقبل أفضل لهذا البلد الجميل طبيعة ولشعبه الفريد طباعاً، وتلك حال الصحافي «حمزة عليّان» الذي تشهد له الصحافة الكويتية دوره البارز في أروقة إنتاجها وفي صناعة أرشيفها الممنهج والمميز، وتلك أيضاً حال الفنان التشكيلي «شارل نصّار» الذي «ينحت الجمال في شظايا الحرب، ويحوّل من خلالها الذكريات المرّة إلى حلوة» وفق ما جاء في مقال خصصته جريدة «الشرق الأوسط» لهذا «الحدّاد» الذي يعتز بمهنته جاعلاً من دويّ مطرقته وصفير الحفر على الحديد جزءاً رائعاً من معزوفة الطبيعة بغابات الصنوبر في «رمحالا» قريته الهادئة والهانئة على أطراف قضاء «عاليه».

لا يكمن إبداع «شارل» في كونه مجرد فنان موهوب يتعامل مع شظايا المقذوفات الحربية وبقايا المخلفات الحديدية برؤية فنية تحوّلها الى لوحات تجريدية تمثل شكلاً معيناً أو مدلولاً مستهدفاً، بل تتسع مروحة الفرادة لديه لتشمل عدة زوايا تتعلق بشخصيته ووطنيته ورؤيته المستقبلية.

أما عن شخصيته، فهو المثابر المثقف، المبدع المتواضع، البشوش الهادئ الذي يستقبلك بأصالة «ابن البيت» في حديقة منزله الخاص وبين أحضان الكهف الذي ورثه عن أسلافه ليستفيض شرحاً عن مئات المنحوتات الحديدية والقطع الفنية التي يعرضها مجاناً للزائرين، والتي تشعر من خلال التجول بينها- فعلاً لا قولاً- بدبدبة أنامل الحياة على جسمها الصدئ، وتسمع من ويل ماضيها صرخات الأمل لا الألم!

ولعل ما يلفت أكثر بهذا المبدع اللبناني، أنه وعلى الرغم مما عاناه- هو وعائلته- أيام الحرب والتهجير، وعلى الرغم مما زال يعانيه كباقي اللبنانيين في هذه الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة، ما زال متمسكاً بأرضه، مؤمناً بقيامة وطنه، مراهناً على صبره ومساندة زوجته الفاضلة التي تشاركه الإبداع الفني على طريقتها، كي لا تجبره الظروف للهجرة قسراً من لبنان الذي يعشقه ويحب كل ما فيه.

لقد حول «شارل» مهنة الحدادة القاسية الى شغف وحياة، وانتقل بموهبته من دائرة التسالي الى صناعة الإبداع، وهذا ما يتسم به المبدعون على مدى العصور وفي مختلف البقاع، فهو صاحب رؤية وملتزم بمشروع رغم ما يظهره من بساطة في الطرح وتواضع في أسلوب التعبير عن أحلامه الكبرى.

لا يمانع «شارل» من أن يتحوّل معرضه المفتوح إلى مزار سياحي جاذب ومميّز، لكنه لا يسعى إلى الأمر ولا يستعجله لأنه يرفض أن يطغى هوس المردود المادي على شغف الموهبة وجميل الإبداع. يحلم «شارل» بأن ينجز للبنان الوطن ما أنجزه «إيفل» لفرنسا الحضارية من خلال منحوتة عملاقة تمثل الأرزة أو إحدى الوجوه اللبنانية المشرقة. ويرتضي «شارل» أن تدرّ عليه مهنته ما يغنيه عن مذلة السؤال أو مشقة لفت نظر المسؤولين في وزارتي الثقافة والسياحة الى موهبته الفريدة!

***

والدور الجديد الذي يجب أن يؤديه لبنان ليستعيد وجهه المشرق لن يكون من خلال ثروة نفطية موعودة لكنها ناضبة ومحركة للمطامع والتوترات، كما لن يكون بالالتحاق بركب محاور بائسة أو أحلاف كاذبة، مستقبل لبنان لا يجوز أن يتنكر لماضيه الحضاري الذي صنعه النخبة من شعبه القليل في عدده الكبير في إبداعه.

«شارل نصّار» وأمثاله من المبدعين المنسييّن في فيء هذه السنديانة أو تحت تلك الصنوبرة، كما أولئك المنغمسين إبداعاً على ضفاف نهر دافق أو بالقرب من صخر ناطق، هم وجه لبنان الحضاري الذي نراهن عليه إن بقي لنا أمل أن يرى أولادنا بعضاً مما عايشه أجدادنا من مجد وحضارة وثقافة وإبداع.

***

شكراً «حمزة عليّان» على لبنانيتك الصادقة ومهنيتك المخلصة، وشكراً «شارل نصّار» لأني كلما تذكرت إبداعك راودني الأمل من جديد في أن لبنان لن يموت انتحاراً ولا اندحاراً، وأن الشعب اللبناني لن يرتضي البقاء طويلاً في أقبية الحزن أو على هامش الحضارة والإشراق.

* كاتب ومستشار قانوني.

د. بلال عقل الصنديد