لا يشغل الأديب المصري عماد أبوزيد نفسه بالمصطلحات أو بتصنيف ما يكتبه، هو يبدع قصة، قصيرة كانت أم قصيرة جدًا أم طويلة.

تشعر وأنت تتحدث إليه أنّ أهم ما يبتغيه هو أن يظل نصه نابضًا بالحياة... يكتبُ أعمَاله كمَنْ يرسم حلمًا ويمضي وراءه. وفي رحلته الإبداعية الغنية أصدر مجموعات قصصية عِدّة ترجمت هذا الحلم، منها «مدينة آمنة»، و«نصْل»، و«رخصة قتل»، و«مأساة حياة»، و«وتر هارب».

Ad

وفي حوار أجرته معه «الجريدة» بالقاهرة، قال أبوزيد، إنه يكتب القصة القصيرة بمهارة رجل السيرك الحاذق الذي يسير على الحبال، ولا يحبّذ الإسراف في استخدام المجاز والرمزية المقنّعة، لافتًا إلى أنه شرع في كتابة رواية يأمل أن ترى النور قريبًا… وفيما يلي نص الحوار:

• تترك سنوات النشأة الأولى أصداءً على إبداع الكُتّاب، حدثنا عن بواكير أيامك، وكيف تركت أثرًا في تجربتك؟

- في صباي كنت أتنقل بين المدينة والريف، ولكل منهما أثر في النفس، وعين الطفل تلحظ وترصد وتتأمل مظاهر كل منهما.

• ثمة صراع بين الشعر والرواية بشأن أيهما ديوان العرب. برأيك، لماذا تبدو القصة القصيرة بعيدة عن هذه المنافسة؟

- يحتل الشعر في الثقافة العربية مكانة كبيرة حقًا، لكن جرت في النهر مياه كثيرة، وهذا ما دعا د. جابر عصفور لإطلاق كتابه المعنون بـ «زمن الرواية» سنة 1999، ثم يبادله أدونيس بإطلاق كتابه «زمن الشعر» عام 2005.

وإذا أعطينا لمحة سريعة عن هذا الصراع نقول: إن ثقافة العرب كانت ثقافة شفهية، ومع ظهور الورق، وقيام الخليفة العباسي الثاني، أبوجعفر عبدالله المنصور، بإنشاء أول مصنع للورق في بغداد، بدأ المجتمع العربي ينتقل من مرحلة الشفهية إلى الكتابية.

وقد عزَّز ذلك مرور العالم بالثورات الصناعية الأربع، مما مهَّد البيئة الخصبة للرواية، فمن نقل الخبر، إلى كشف تفاصيل ما وراء الخبر، ولا ننسى أن كتب الرحّالة، والمستشرقين، وكتاب مثل «وصف مصر»، وكتب السيرة الذاتية عزّز ذلك الاتجاه نحو الرواية.

لكنني أتوقف عند ظهور شعر التفعيلة في بداية السبعينيات من القرن الماضي، وانقسام الشعراء والنقاد بين فريق مؤيد لشعر الخليل بن أحمد، وآخر مؤيد لشعر التفعيلة، ثم ظهور جيل آخر من الشعراء يكتبون قصيدة النثر، من ثم إعادة إنتاج الانقسام مُجددًا. كل هذا أدى إلى كسر هيبة عالم الشعر، وكسر رمزيته، لا سيما أن بعض شعراء التفعيلة أوغلوا في الغموض والتلغيز، وكذلك أرباب قصيدة النثر، وانصرافهم جميعًا عن المتلقي بواقعه الملموس والمعيش.

ومن استقراء حال المطبوع الإبداعي عالميًا نرى أن رواية مثل «الخيميائي» لباولو كويلو بيعَ منها أكثر من 65 مليون نسخة، و»هاري بوتر» لمؤلفتها جي كي رولينغ، بيع منها أكثر من 120 مليون نسخة، و«حكايات غريم» للأخوين غريم، حوالي 200 مليون نسخة. إذن وجود الرواية على سدّة الكتابات والأجناس الإبداعية هو توجُّه عالمي.

أحمد الجمَّال

• يُغرِق بعض النصوص الحداثية في التلغيز والغموض، من منطلق التحليق بعيدًا عن الكلاسيكية. ما رأيك في ذلك؟

- الحداثة ليست حداثوية الشكل الفني للقصيدة أو القصة فقط، إنما شكل ومضمون (وتجانس وتفاعل بينهما) يثير القارئ، بما يتضمنه من ذاتية، وتميّز، وتفرّد، ولغة، وبكارة الأسلوب والأداة، ما ينتج عنه طرح رؤية جديدة. أما الغموض والتلغيز الذي نعانيه فهو انفتاح الألفاظ على معانٍ كثيرة، ليس بوضعها في سياقات لغوية غير مطروقة؛ إنما بصنع سياقات مشوهة. وأنا في قول واحد لا أحبّذ الإسراف في استخدام المجاز، والإيغال في منطقة اللاوعي، والإبهام، والتعمية، واستخدام الرمزية المقنعة. وأتفق مع قول أدونيس: «إن الغموض يولّد السعي، والرغبة للمعرفة، والاكتشاف». وهذا قطعًا ليس معناه الغموض المطلق، إنما الغموض الشفيف.

• أيهما أفاد الآخر لديك: إبداع القصة أم كتابة المقال، باعتبار اشتراكهما في التكثيف والتركيز على الفكرة واعتماد لغة كتابة رشيقة؟

- ممارستي لكتابة القصة، وكتابة المقال، جعلتني أرى بوضوح المساحة الفاصلة بينهما، فهناك أسماء كبيرة في عالَم القصّ لم يتوافر لديها تلك الخاصية، من ثم عبَّرت القصة لديهم عن آرائهم بصراحة، وليس تلميحًا.

• لك تجارب رائعة في «القصة القصيرة جدًا»، لماذا لا يحظى هذا الجنس الأدبي بالرواج على مستوى الإبداع والقراءة، مقارنة بغيره من الأجناس الأدبية؟

- بداية أنا لم أسمِ أيًّا من إصداراتي باسم القصة القصيرة جدًا، على الرغم من أن كتاباتي تتفاوت بين الطول والقِصَر، ولقد سبق أن نشرت مجتزأ من قصار القصص لي عام 1998 بالعدد 152 من مجلة أدب ونقد، من دون أن أفتعل ضجة كبيرة حولها، لا سيما أنها نُشِرت في وقت مبكر جدًا. وقد أستطيع القول إنني كاتب تجريبي مجدد، أكتب القصة القصيرة بمهارة رجل السيرك الحاذق الذي يسير على الحبال، ولست مشغولًا بإشكالية التصنيف والمصطلح. وإذا سمحتم لنا أن نتكلم في إيجاز عن نشأة القصة القصيرة جدًا؛ فلقد أجمع النقاد أن إرنست همينغواي كتب قصة تتألف من 6 كلمات سنة 1925، لكنّه لم يسمّها قصة قصيرة جدًا «للبيع، حذاء طفل لم يُلبس قط». وبصرف النظر عن قناعتي بهذه الكلمات الستّ كجنس أدبي أم لا.

وهناك من أشار إلى أن الكاتبة الفرنسية ناتالي ساروت كتبت هذا الجنس الأدبي عام 1932، من دون أن تضع هذه الكتابة تحت اسم مصطلح القصة القصيرة جدًا. وهناك مَن يرجعها في أدبنا العربي إلى خواطر محمد تيمور سنة 1922.

ولقد تسابق النقاد بتعريف القصة القصيرة في أدبنا العربي من حيث الشكل والمضمون والحجم، وهناك من النقاد مَن يعتبر أن القصة الشاعرة جنس أدبي جديد مستقل، يقع بين الشعر والنثر، وما عدا ذلك فهو من قبيل الفوضى (يعني القصة القصيرة جدًا)، كما قال د. محمد فكري الجزار في بحث له تحت اسم «القصة الشاعرة من النص إلى الجنس… دراسة في نظرية الأدب».

وهناك على سبيل المثال د. جميل حمداوي، يقسِّم القصة القصيرة جدًا إلى أنواع مثل: القصة الشذرية، والقصة الومضة، والقصة القصصية، والقصة اللقطة، واللوحة القصصية، وغيرها.

لهذه الأسباب جميعًا، لا أضع نفسي أسير علامات الاستفهام، أو في شبهة المصطلح، لأنّ الإبداع يسبق النقد، وما أودّ أن أركز عليه هو أن القصة القصيرة أو القصيرة جدًا، يلزم ألا تخلو من الفن القصصي، وأن تكون مكتوبة بوعي، ولا بُدّ أن تترك أثرًا في نفس القارئ.

• ما المشروع الأدبي الذي تعكف عليه راهنًا؟

- أشرع الآن في كتابة رواية، وآمل أن ترى النور قريبًا.