إذا بصق أحدهم في الشارع، فهناك غرامة قاسية، وإذا خالف المشاة قواعد عبور الشارع، فهناك غرامة عليهم، وإذا قضى أحد حاجته في دورة المياه ولم يسحب «السيفون»، فهناك غرامة، ولكم أن تقيسوا العقوبات على كل حالات اللامبالاة والتسيّب الأخلاقي والقانوني في الأمثلة السابقة.

ضبط وشدة ولا مكان لمرجعية أخلاق الناس، القوانين التي تشرع ليست كلمات مصفوفة في المدونة العقابية، وإنما هي التنفيذ وفعاليته، فهذا لا يعرف الاستثناء، ولا يفرّق بين صغير وكبير، هكذا شرع مؤسس سنغافورة وباني نهضتها، «لي كوان هو»، فقد قال في لقاء صحافي لفريد زكريا عام 1994 «ترك المرجعية الأخلاقية لحريّة الفرد ليُحسن التصرف من عدمه ستكون على حساب مصلحة المجتمع، في الشرق الهدف الأسمى هو المجتمع المنظم الذي يستطيع كل فرد أن يستمتع فيه بالحياة» (من كتاب القيادة لهنري كيسنجر) الحرية - بكلام آخر - لا توجد كحالة طبيعية عند كوان هو، وإنما توجد فقط في المجتمع المنضبط المنظم.

Ad

حين وصل لي كوان هو إلى الحكم في سنغافورة رئيساً للوزراء بعد استقلالها عن بريطانيا، كانت هذه المدينة الدولة في حالة يُرثى لها من الفقر والفساد، وكانت محرومة تماماً من الموارد الطبيعية، لم يجد خريج القانون من جامعة أكسفورد، والأول على دفعته بالثانوية مع زوجته وسنده في مشوار عمره، «لي هو»، غير روح الإبداع والمبادرة إلى التغيير مع الحزم والشدة، فلا مكان للخطأ، ولا مكان للتسامح ولو لمرّة واحدة، ودفع أهل الوظيفة العامة الثمن غالياً، فتم طرد الكثير منهم لأيّ خطأ أو تجاوز ولو لمرّة واحدة، لا فرق بين موظف صغير ولا وزير، لا زيادة رواتب وأجور في فترة الإصلاح، وبعدها بسنوات بسيطة تضاعف الدّخل العام للدولة، وتضاعفت أجور العاملين، وزاد الإنفاق على الرعاية الصحية، أما إصلاح التعليم فكان قضية «لي» الثانية، بعد محاربة الفساد.

لم تمرّ غير سنوات بسيطة، قفزت فيها سنغافورة من عالَم الفقر إلى جنة التقدم، وأضحى دخل الفرد هو الأعلى في آسيا، كان شعار القائد الذي تعلّمت منه الصين الكثير مع بداية عهد الإصلاح فيها،

لدينج هيساو بينج، هو إصلاح الفرد، وأن خلق الإنسان المنتج هو الثروة الحقيقية للدولة.

هناك الكثير في حياة لي كوان يمكن أن يرشد أمة «من الخليج الثائر للمحيط الهادر» في رحلة الإقلاع من دنيا البؤس القاتلة منذ عقود، لكن كانت المصيبة في القيادات المتعاقبة التي رأت أنها هي الدولة والدولة هي، بلُغة لويس الرابع عشر.

لماذا هذا المقال اليوم، وقد كتبت أكثر من مرة عن «لي كوان هو»، فما الداعي إلى التكرار؟

الإجابة هي ما نشرته هذه الجريدة في الثاني من هذا الشهر بعنوان «متى تُستَرد الكويت من براثن اللامبالاة؟» التحقيق ينبش حالة الفوضى في المرور والقذارة في رمي المهملات وغياب القانون وغيرها.

ألا تعتقدون بأن حاجتنا ليست فقط إلى «لي كوان هو»، واحد، وإنّما إلى مئات منهم نجدهم في كل حارة وفي كل بيت وفي كل وزارة وإدارة حكومية، لا بدّ من نهاية لدولة اللامبالاة.

حسن العيسى