بلغت الأزمة الاقتصادية في سريلانكا مرحلة مفصلية حين اقتحم المحتجون القصر الرئاسي في 9 يوليو الماضي، فانتهى بذلك عهد عائلة راجاباكسا الذي امتد عشر سنوات، لا يزال مكان الرئيس غير معروف، إذ يقال إنه هرب إلى المالديف في البداية ثم توجّه إلى سنغافورة، وقد يكون موجوداً اليوم بإحدى الدول الخليجية، اعتُقِل شقيقه في المطار بأمرٍ من محكمة سريلانكية يقضي بمنع أفراد عائلة راجاباكسا من مغادرة البلد.

تشتق هذه الملحمة السياسية المستمرة من تدهور الأزمة الاقتصادية في سريلانكا، وهي تشبه الأحداث التي شهدتها فرنسا في القرن الثامن عشر ومهّدت للثورة الفرنسية.

Ad

يتعلق أول سبب لاندلاع الثورة الفرنسية بمظاهر اللامساواة الاجتماعية، والنظام الملكي المطلق الذي يفتقر إلى الحُكم الرشيد، وتدهور الظروف الاقتصادية تزامناً مع سلسلة من الأزمات المالية، والشوائب البنيوية، والديون المثقلة بالأعباء. هذا الوضع يشبه المشهد السائد في سريلانكا اليوم، حيث أدى الحُكم الدكتاتوري الذي مارسه الرئيس راجاباكسا وتجاهله التام للقيم الديموقراطية ومبادئ الحُكم السليم إلى تدمير سريلانكا بالكامل، علماً أن البلد لا يزال يتعافى من حرب أهلية دامت لأربعة عقود، وقد أدى تأثير عائلة راجاباكسا على نشاطات الحُكم اليومية ومظاهر الفساد الراسخة إلى إضعاف بنية الاقتصاد الوطني والمؤسسات السياسية، ليكرر الشعب السريلانكي التاريخ حين سار نحو القصر الرئاسي، بما يشبه اقتحام سجن الباستيل خلال الثورة الفرنسية.

طرح الفيلسوف السياسي جان جاك روسو فكرة العقد الاجتماعي الذي يهدف إلى إرساء الاستقرار والأمن لضمان حرية جميع الناس وتطورهم، لكن حكومة راجاباكسا فشلت في تحقيق هذا الهدف.

في البداية، انعكست أزمة كورونا على قطاع السياحة، ثم فُرِضت تخفيضات ضريبية وحظر محلي على واردات الأسمدة الكيماوية، ما أدى إلى زيادة الضغوط على الاقتصاد، وعندما اندلعت الحرب في أوكرانيا، أصبحت هذه الضغوط لا تُطاق، فتخلّفت الجزيرة عن تسديد أول قرض على الإطلاق منذ نيل استقلالها.

كذلك، أصبح الناس في حالة من الفقر المدقع بسبب ارتفاع مستوى التضخم وغياب السلع الأساسية، وهكذا تضرر الناس جسدياً ومادياً بسبب انعدام مسؤولية الحكومة وسياساتها غير المستدامة، ثم دفعهم الاستياء إلى الاحتجاج ضد النظام الفاسد، بعدما شعر الناس بأنهم مضطرون لإنقاذ أرضهم.

في ظروف مماثلة، تعطي نظرية العقد الاجتماعي فرصة لتسجيل الاحتجاجات ضد الحكومة، وفي سريلانكا، أدت هذه الاحتجاجات إلى هرب رئيس البلاد ورئيس الوزراء، ولا يمكن أن يسخر أحد من مشهد المحتجين وهم يشاهدون ما فعلوه في نشرة الأخبار من داخل القصر الرئاسي، إذ يشكّل هذا المشهد حدثاً بالغ الأهمية في تاريخ العالم، فهو يؤكد على دور الشعب وأهمية موافقته على طريقة إدارة الدولة.

يبقى التوافق إذاً أساس أي عقد بين مختلف الأطراف، وعند انهيار هذا التوافق، لا مفر من اندلاع ثورات، والتي لا يشترط أن تكون جميعها عنيفة ودموية. كان المحتجون في شوارع كولومبو قد انتخبوا بأنفسهم الرئيس غوتابايا راجاباكسا في عام 2020 بفارق كبير، لكنّ العقد صفقة بين طرفَين، وإذا نكث أحدهما بوعده، ينهار الاتفاق، وفي حالات مماثلة، تحتاج الدولة إلى صياغة جديدة لا تقتصر على الحكومة بل تشمل البنية الاجتماعية والسياسية في البلد.

لا تستطيع سريلانكا أن تتمسك بنظامها السياسي النخبوي والفاسد، وسيتذكر أي فرد أو حزب أو عائلة سياسية في سريلانكا مشاهد اليوم التاسع من يوليو 2022، ولن يقتصر أثر ذلك اليوم على الجزيرة، بل إنه يحمل رسالة واضحة إلى جميع النُخَب السياسية في العالم بأن إرادة الشعب هي الأساس.

شكّلت الثورة الفرنسية نهاية النظام الملكي المطلق والاستبداد في فرنسا، وجعلت المساواة والحرية والأخوة المبادئ الأساسية في الحكومات اللاحقة، وفي سريلانكا ودول كثيرة أخرى، تبرز الحاجة إلى مراجعة مفهوم الديموقراطية لأن شرعية أي حكومة لا تُبنى على القروض بل ترتكز في المقام الأول على إرادة الشعب وحقوقه.

*فارون موهان

Al Monitor