كان ذلك المشهد يرمز إلى الآمال المتجددة بإطلاق حقبة جديدة من التعاون بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق. نتيجةً لذلك، تلاشت المخاوف من اندلاع حرب نووية بين أقوى كتلتَين في العالم، وتمنى الكثيرون ألا تبقى الأسلحة النووية أداة محورية في السياسة الدولية، رغم استمرار وجودها. في يونيو 1991، أعلن ميخائيل غورباتشوف، آخر زعيم للاتحاد السوفياتي، أن «مخاطر اندلاع حرب نووية عالمية اختفت من الناحية العملية».

اليوم، بعد مرور أكثر من ثلاثين سنة على تلك الأحداث، عادت القنابل النووية إلى الواجهة، فقد تجددت المخاوف من اندلاع حرب نووية انتقامية بين الولايات المتحدة وروسيا. نتيجة الغزو الروسي الوحشي لأوكرانيا والتهديدات النووية المقلقة التي يطلقها المسؤولون الروس، يقترب العالم اليوم من استخدام الأسلحة النووية من باب اليأس (أو عن طريق الخطأ أو بسبب حسابات شائبة) أكثر من أي وقت مضى منذ بداية الثمانينات.

Ad

الحرب الروسية - الأوكرانية

تأتي الحرب الروسية الأوكرانية لتذكّرنا بعدد من الحقائق القديمة حول الأسلحة النووية: ثمة حدود للحماية التي يضمنها نظام الردع النووي (بعبارة أخرى، قد تضمن الأسلحة التقليدية الصالحة للاستعمال حماية إضافية). خلال الأزمات، يصبح الردع هشاً ولا يعود تلقائياً أو ذاتي التدعيم، ما يعني احتمال فشله في أي لحظة.

أهوال التفجيرات الذرية

في العقود الأولى التي تلت الحرب العالمية الثانية، توقع عدد كبير من القادة العسكريين والسياسيين الأميركيين ومعظم الرأي العام أن تُستعمل الأسلحة النووية مجدداً، أو كانوا يخشون حصول ذلك. كشفت كارثة هيروشيما وناغازاكي أهوال التفجيرات الذرية أمام الجميع، لذا تسللت فكرة اندلاع حرب نووية في أي لحظة إلى المجتمع الأميركي. بُنِي عدد كبير من مباني الحرب الباردة، بما في ذلك المدارس والمطارات وحتى الفنادق الصغيرة، مع ملجأ للطوارئ في القبو. وأصبحت التعليمات التي تدعو الناس إلى «الانحناء وتغطية الرأس» عند وقوع هجوم نووي (بدل الركض نحو النافذة لرؤية ما يحصل) جزءاً من تدريبات الدفاع المدني الأميركي التي يتشجّع جميع المواطنين الأميركيين على إتقانها، بما في ذلك طلاب المدارس.

الخيال العلمي

عرضت أفلام مثل On the Beach (على الشاطئ) في عام 1959 عالماً تُدمّره حرب نووية. كان هذا الفيلم يدخل في خانة الخيال العلمي ويتمحور حول حقبة ما بعد الحرب. تكلّم خبراء في الاستراتيجيات العسكرية عن «التفكير بالمستحيل»، أي ضرورة التفكير بكيفية خوض حرب نووية والنجاة منها. هيرمان كان هو واحد من هؤلاء الخبراء، وقد شكّل مصدر إلهام تاريخي للشخصية المجنونة التي قدّمها ستانلي كوبريك في فيلم الكوميديا السوداء الكلاسيكي Dr. Strangelove. جاءت أحداث مثل حرب الصواريخ الكوبية لتعطي طابعاً واقعياً لهذه المخاوف.

طوال 13 يوماً في أكتوبر 1962، اقترب العالم بدرجة غير مسبوقة من خوض حرب نووية، وظن الكثيرون في تلك الحقبة أن العالم يوشك على الانتهاء حين تتصاعد غيوم الفطر النووي في المجال الجوي.

معايير ضبط النفس

لكن خلال الفترة نفسها، تطورت معايير ضبط النفس. أصبحت الحرب النووية جزءاً من المحرمات (يهدف هذا المعيار إلى منع أول استخدام للأسلحة النووية) بسبب المصالح الاستراتيجية والمخاوف الأخلاقية في آن. حاولت حركة شعبية عالمية ومعادية للحرب النووية، إلى جانب دولٍ غير نووية والأمم المتحدة، التشهير بالأسلحة النووية باعتبارها نوعاً غير مقبول من أسلحة الدمار الشامل. وبعد الهلع الذي أحدثته أزمة الصواريخ الكوبية، عقدت الولايات المتحدة اتفاقيات للحد من التسلّح مع الاتحاد السوفياتي، في محاولة منها لتجديد استقرار «ميزان الرعب».

ساهمت معايير الضبط النووي في ترسيخ عادة الامتناع عن استخدام الأسلحة النووية منذ 77 عاماً تقريباً، وقد يكون هذا الإنجاز الأكثر أهمية في العصر النووي.

لكن انهارت اليوم معظم اتفاقيات الحد من التسلح، وبدأت الدول المسلّحة نووياً تشارك مجدداً في سباقات تسلّح مكلفة. نحن لا نعيش إذاً في زمن ضبط النفس بل في عصر الفائض النووي.

هذه التطورات كلها تعيدنا إلى الزمن الحاضر وتطرح سؤالاً أساسياً بدأ يراود جميع الناس فجأةً: هل يعتبر القادة الروس الأسلحة النووية جزءاً من المحرمات أيضاً؟ وهل سيستعمل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين السلاح النووي في حربه مع أوكرانيا؟

يريد بوتين أن يقنع العالم، لا سيما الولايات المتحدة، بأنه مستعد لهذا الخيار. حين أعلن بوتين بدء «العملية العسكرية الخاصة» في أوكرانيا، حذّر أي بلد يحاول التدخّل في الحرب من مواجهة «عواقب غير مسبوقة في التاريخ»، وقد اعتبر الكثيرون هذا الكلام تهديداً نووياً مبطّناً. أدلى مسؤولون روس آخرون بتصريحات مماثلة على مر الحرب.

مستويات التأهب

حتى الآن، تهدف هذه التهديدات على الأرجح إلى ردع الناتو أكثر مما تسعى إلى استخدام الأسلحة النووية على أرض الواقع. يبدو أن روسيا لم ترفع مستويات التأهب في قواتها النووية لكنها نشّطت نظام الاتصالات الذي يستطيع نقل الأوامر لتشغيل تلك الأسلحة.

يدرك المسؤولون الروس طبعاً أن استخدام أي أسلحة نووية سيترافق مع عواقب مدمّرة على روسيا وبوتين شخصياً، فيواجه البلد إدانة واسعة وازدراءً عالمياً. في بداية شهر مايو، قال أناتولي أنتونوف، سفير روسيا لدى الولايات المتحدة: «بلدنا هو الذي طلب من زملائنا الأميركيين في السنوات الأخيرة التأكيد على عدم وجود أي فائز في الحرب النووية. بالتالي، يجب ألا تقع أي حرب مماثلة». مع ذلك، لن يكون احتمال لجوء بوتين إلى الأسلحة النووية معدوماً، ولا مفر من تصاعد المخاطر المطروحة كلما طالت مدة الحرب.

لم يردّ حلف الناتو أو الولايات المتحدة على خطاب المسؤولين الروس بمواقف مشابهة (إطلاق تهديدات نووية) أو تصرفات مماثلة (زيادة جهوزية الترسانات النووية)، بل إنهما نقلا كميات هائلة من الأسلحة التقليدية إلى أوكرانيا وتعهدا بمحاسبة مرتكبي جرائم الحرب الروسية.

ورغم الدعوات المتفرقة في الولايات المتحدة لفرض «منطقة حظر جوي» فوق أوكرانيا كلها أو أجزاء منها، رفضت إدارة بايدن هذا التحرك، وهو قرار حكيم. عملياً، يعني هذا الحظر إسقاط الطائرات الروسية والمجازفة بإطلاق حرب عالمية ثالثة.

ضعف الأداء العسكري

مع استمرار الحرب الراهنة، قد تنجرّ الولايات المتحدة في نهاية المطاف إلى حرب واسعة وأكثر خطورة. بسبب ضعف الأداء العسكري الروسي، حاول خبراء الدفاع من مؤيدي استعمال القوة ومحاربون من حقبة الحرب الباردة تغيير الأهداف المعلنة والانتقال من تقديم المساعدة لمنع هزيمة أوكرانيا إلى إضعاف روسيا، كما قال وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن في 25 أبريل.

حتى أن عدداً مقلقاً من محللي السياسة الخارجية، بما في ذلك ضباط عسكريون أميركيون متقاعدون ومناصرون لحلف الناتو، دعا إدارة بايدن إلى تطبيق مقاربة أكثر عدائية بكثير لمساعدة أوكرانيا أو حتى تحقيق انتصار كامل، رغم المجازفة بتصعيد المواجهة النووية.

سيكون استعمال الحرب لإعادة التأكيد على الهيمنة الأميركية لعبة خطيرة. لكن يميل الناس إلى نسيان المخاطر النووية. بقيت الحرب الباردة ضمنية لأن القادة الأميركيين أدركوا أن مواجهة خصمٍ مسلّح نووياً تفرض قيوداً معيّنة على التحركات المحتملة.

حين غزا الاتحاد السوفياتي المجر عام 1956 وتشيكوسلوفاكيا عام 1968، امتنعت الولايات المتحدة عن الرد بالقوة العسكرية. لكن أصبحت وقائع الحرب الباردة المخيفة والتعليمات المرتبطة بالطوارئ النووية جزءاً من كتب التاريخ بالنسبة إلى جيلٍ كامل من الناس ولم تعد تجربة واقعية. في هذا السياق، كتب المؤرخ دانيال إيمروار حديثاً: «إنه أول عقدٍ لا يتذكر فيه أي رئيس دولة نووية كارثة هيروشيما».

منافع الردع النووي

من خلال إعادة إحياء المخاطر النووية، لا تُذكّرنا الحرب الروسية - الأوكرانية اليوم بمنافع الردع النووي فحسب، بل بمخاطره وحدوده أيضاً. مَنَع نظام الردع روسيا من توسيع الحرب كي تشمل أعضاءً في الناتو مثل بولندا ورومانيا.

في المقابل، منعت ترسانة روسيا النووية حلف الناتو من التدخّل مباشرةً في هذا الصراع، لكنها فشلت في تسهيل استيلاء روسيا على أجزاء واسعة من الأراضي الأوكرانية أو إجبار كييف على الاستسلام. الأهم من ذلك هو أن الحرب تُذكّرنا بأن كبح التصعيد يبقى نهجاً مجهول المعالم. لا أحد يعرف ما سيحصل إذا استُعمِل سلاح نووي على أرض الواقع.

على صعيد آخر، تُذكّرنا الحرب أيضاً بأن المعايير تبقى قابلة للخرق في نهاية المطاف. في السنوات القليلة الماضية، ضعفت معايير كثيرة كنّا نعتبرها قوية. أصبحت معايير الديمقراطية محاصرة في الولايات المتحدة وأماكن أخرى مثلاً.

وعلى المستوى الدولي، استنزفت الدول معايير وحدة الأراضي، والتعددية، والحد من التسلح، والقانون الإنساني. قد يعتبر الكثيرون الأسلحة النووية من المحرمات، لكن أصبح هذا المعيار أضعف من جميع المعايير الأخرى لأن عدداً صغيراً من الانتهاكات قادر على تدميره.

قد يظن البعض أن أنظمة الردع والمحرمات تحافظ على قوتها لأن أي زعيم منطقي لن يفكر بإطلاق حرب نووية. في هذا السياق، كتب خبير العلاقات الدولية الواقعي، كينيث والتز المتخصص بشؤون الردع النووي، أن الأسلحة النووية تنتج «حوافز قوية لاستخدامها بطريقة مسؤولة».

قد تكون هذه الفكرة صائبة أحياناً، لكنها لا تنطبق على جميع الحالات. لا يكون جميع القادة منطقيين ولا يتمتعون كلهم بحس المسؤولية. تغفل هذه الفكرة أيضاً عن احتمال إطلاق حرب نووية عن طريق الخطأ، أو بسبب سوء تفاهم، أو حسابات خاطئة. باختصار، تبقى أنظمة الردع والمحرمات النووية معرّضة للخطر دوماً.

مظاهر الدمار والوحشية

بالعودة إلى بوتين، تسلل هذا الأخير إلى السلطة في روسيا كرئيس وزراء في عام 1999، فأشرف على الحرب الروسية الوحشية الثانية في الشيشان. منذ ذلك الحين، أثبتت روسيا في عهد بوتين استعدادها لانتهاك أهم المعايير الدولية، بما في ذلك المعايير التي تعارض غزو الأراضي (اجتاحت شبه جزيرة القرم وأوكرانيا) والمعايير التي تمنع مهاجمة الأهداف المدنية. تجاهلت روسيا قواعد الحرب، فنشر الجيش الروسي مظاهر الدمار والوحشية ضد المدنيين في الشيشان، وسورية، وأخيراً أوكرانيا.

كذلك، قصفت روسيا أكبر محطة أوروبية للطاقة النووية في «زابوريزهزهيا»، أوكرانيا، وأدت هذه الخطوة المتهورة إلى إضرام النار في المنشأة. تجازف هذه الضربات بإحداث كوارث نووية.

اعتبر المسؤولون الروس هوية أوكرانيا الوطنية ووجودها تهديداً على روسيا، واستعملوا خطاباً يحرّض على إبادة الشعب في خضم مساعيهم «لاجتثاث النازية» من أوكرانيا وتبرير الحرب أمام الرأي العام الروسي. تزامن هذا الخطاب مع حصول جرائم حرب روسية مشينة في مدن «بوتشا»، و«خيرسون»، و«ماريوبول»، وأماكن أخرى من أوكرانيا، وتزيد هذه المواقف احتمال ارتكاب إبادة جماعية. منطقياً، لن يجد الزعيم المستعد لارتكاب إبادة ما يمنعه من استعمال الأسلحة النووية.

لا أحد يعرف ما يفكر به بوتين.

لكن إذا استمر سوء الأداء الروسي في الحرب، قد يقرر بوتين استعمال سلاح نووي تكتيكي (قنبلة منخفضة القوة مُصمّمة للاستخدام في ساحة المعركة) بسبب إحباطه.

قد تكون هذه الأسلحة أصغر من القنابل الاستراتيجية الكبرى التي تستطيع تدمير مدن بأكملها، لكنها تبقى أسلحة نووية حرارية مدمّرة وقد تترافق مع عواقب كارثية بقدر قنبلة هيروشيما.

لا تحمل الولايات المتحدة وأوكرانيا مصالح متشابهة في هذه الحرب. يجب ألا يُحقق العدوان الروسي أهدافه بفضل التهديدات النووية، لكن من واجب واشنطن في الوقت نفسه أن تتجنب اندلاع حرب كبرى قد تزيد احتمال وقوع مواجهة مباشرة بين الولايات المتحدة وروسيا. من بين جميع الدروس المستخلصة من تجارب الماضي، يبدو أننا ننسى مساوئ الحرب النووية بسهولة، مع أن هذا النسيان قد يعرّضنا لأكبر المخاطر.

* نينا تانينوالد