تشير معظم التوقعات المالية إلى أن ميزانية الكويت لعام 2022- 2023 في طريقها لتحقيق أول فوائض مليارية سنوية منذ 8 سنوات، مادامت أسعار برميل النفط الكويتي أعلى من سعر التعادل المقدّر في الميزانية عند 75 دولاراً للبرميل، وإنتاج النفط أعلى من 2.73 مليون برميل يومياً... وكلا الأمرين احتمالاته عالية الاستمرار، وفقاً لواقع أسواق النفط العالمية.ووفقاً لأسعار برميل النفط الكويتي خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام الحالي، فإن ميزانية الكويت من المتوقع أن تسجل فوائض مالية بحدود 10 مليارات دينار هذا العام، وفقاً لفرضية استمرار أسعار النفط وكمياته أعلى من المستويات المقدّرة في الميزانية، مما يعيد إلى الأذهان 14 عاماً من الفوائض المليارية المتراكمة منذ مطلع الألفية إلى عام 2014، تلاها 8 سنوات من العجوزات المليارية، فلم يكن للاقتصاد ولا صنّاع سياساته أيّ فضل في تحقيق الفوائض، ولا استفادة من دروس تسجيل العجوزات.
لا استفادة
ولا تبيّن المؤشرات، على صعيد المالية العامة للدولة، حدوث أي استفادة مما مرّ به الاقتصاد الكويتي منذ مطلع الألفية حتى اليوم، فالموازنات العامة للدولة، وآخرها للسنة المالية الحالية، تشير إلى تعاظم في الإنفاق الجاري أو الاستهلاكي بلوغاً إلى 75 في المئة من إجمالي المصروفات البالغة 23.1 مليار دينار، توجّه نحو بنود الرواتب والدعوم، و89 في المئة من الإيرادات نفطية، بل إن حتى المصروفات البالغة 2.87 مليار على المشاريع والمناقصات لا يُعرف على وجه التحديد مدى انعكاسها على تنويع الاقتصاد أو تحسين واقع العمالة الوطنية في سوق العمل، فضلاً عن مصروفات غامضة وبنود سريّة وهدر يسهُل ترشيده، إلى جانب انعدام القدرة على وضع سقف محدد للمصروفات، خصوصاً تحت إغواء زيادة إيرادات النفط.وتتبين واحدة من أبرز مشاكل الكويت في معظم التراجع الذي حدث خلال السنوات الماضية على الصعيد الخدمي؛ سواء كان في الإسكان أو الصحة أو التعليم أو حتى الطرق خلال سنوات الفوائض المليارية وارتفاع الإنفاق العام، فغالباً ما يكون استخدام الأموال في الكويت «إبرة بنج» لتخفيف آثار الإخفاق في الإدارة، فيتعمق الإخفاق لإهماله، وتتزايد تكلفة الأموال، لأنّ أغلبها ذو طبيعة صرف مستمرة، وتتعرّض المالية العامة للدولة لضغوط أكبر وانكشاف أوسع أمام تقلّبات أسعار النفط العالمية، التي باتت المحافظة عليها مرتفعة، ليس رهناً بعوامل طبيعية كالنمو الاقتصادي العالمي وانعكاساته على العرض والطلب، بل على تداعيات مؤقتة كاتفاقات «أوبك بلس» على خفض إنتاج النفط، إضافة إلى آثار الحرب الروسية- الأوكرانية على إمدادات الطاقة في العالم.أضرار الفوائض
تجربة اقتصاد الكويت مع ارتفاع أسعار النفط وما ينتج عنه من فوائض بمليارات الدنانير سلبية للغاية، إذ إن من نتائجه ارتفاعاً حاداً في المصروفات، وانخفاضاً في جودة الخدمات، واستسهالاً في استخدام أموال الدولة كوسيلة لعقد الصفقات السياسية، كما حدث مع زيادة رأسمال بنك الائتمان أو «الصفوف الأمامية» أو مكافآت المتقاعدين، فضلاً عن تحويل العلاج بالخارج من خدمة طارئة أو استثنائية إلى أداة شراء للولاء السياسي أو الانتخابي، إضافة إلى إهمال إصلاح سوق العمل في القطاع الخاص أو المشروعات الصغيرة لتكديس أكبر عدد من المواطنين في القطاع العام بكل ما تحمله من مطالبات تتعلّق بالكوادر المالية والبدلات الوظيفية، والإفراط في تدعيم الحكومة الموازية عبر إنشاء المزيد من الهيئات الحكومية بميزانيات ورواتب ضخمة.بل إن تحقيق الفوائض المالية كان أحد أسباب حرمان الدولة من طرح مشاريع شراكة متطورة تضمن الاستدامة، وتنويع الاقتصاد في المطار والموانئ والعديد من المشاريع، لأنّ توافر الأموال يغري بالإنفاق السهل، وتفويت الفرص التي يمكن أن تحققها مشاريع الشراكة، مثل bot أو ppp للاقتصاد أو العمالة الوطنية أو جودة الخدمة.فرصة استثنائية
اليوم لا حديث في الكويت إلّا عن نهج جديد في إدارة الدولة، ولعلّ أهم ملفات هذه الإدارة هو الملف الاقتصادي الذي تتعمق اختلالاته كلما ارتفعت أسعار النفط، وتنكشف أوجاعه كلما انخفضت الأسعار، بالضبط كما عانت الكويت، وهي من بين أغنى دول العالم خلال جائحة «كورونا»، أزمة سيولة خانقة اضطرت الدولة لتوفير سيولة دفع الرواتب شهراً بشهر... وهذا ما يجعل الإيمان بنجاح أي نهج لإدارة الدولة مرتبطاً بفهم قيمة الفوائض المليارية بشكل سليم في أنها فرصة استثنائية ربما لا تتكرر مستقبلاً، وبالتالي فإن قيمتها الحقيقية، خصوصاً في ظل عدم وجود أي أفضلية في تحقيقها، هي في مدى الاستفادة منها لتغيير نموذج الاقتصاد من ريعي إلى إنتاجي يفتح الباب لفرص عمل جديدة من خلال تنويع البيئة الاستثمارية، والعمل على رفع الإيرادات غير النفطية، إضافة إلى ربط الإنفاق على المشاريع والخدمات بالإنجاز والعوائد المالية والاقتصادية، فالفوائض فرصة أكثرمن كونها مجرد رقم.