يقال إن تدمير أمة ما من الداخل لا يتطلب سلاحاً نووياً ولا صواريخ، ولا حتى غزواً، فيكفي أن يتم تخفيض مستوى التعليم ونوعيته على مدى سنوات، يُسمح أو يتغاضى خلالها عن الغش في الامتحانات، وتُعتمد فيها الشهادات المزورة، عندئذ سيلاحظ الناس تدريجياً كثرة الأموات على أيدي أطباء، وانهيار مبان كثيرة بسبب مهندسين، وهدر الأموال وتبذيرها على يد اقتصاديين ومحاسبين، وستموت الإنسانية على يد مدّعي دين، وستضيع العدالة على يد قضاة، لأنهم كانوا إما نتاج مخرجات التعليم السيئ، أو حاملين لشهادات مزورة.

ويقال إنه بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، كرمت المخابرات الأميركية أحد عملائها الروس، وكان وقتئذٍ يشغل منصب وزير للخدمة المدنية، فسأله ضابط سابق في المخابرات الروسية: لقد كنت مسؤولاً عن مراقبتك ليل نهار، فلم أستطع إطلاقاً إيجاد أي ممسك عليك مع الأميركان، فما الذي فعلته حتى يكافئوك؟ كان رد العميل صادماً، فقد قال: لم أقم بأي نشاط تجسسي، فكل ما كان علي فعله أنني كنت أُعيِّن الخريجين في غير مجال تخصصهم، وأضع الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب، وأشجع على ترقية المتسيبين الخاملين، وأضيّق على الكفاءات، حتى لم يعد هناك من يدير الحكومة غير المتردية والنطيحة.

Ad

وقال عميل سري سوفياتي منشق، يدعى يوري بيزمينوف: يمكن تمزيق أي بلد بإفساد التعليم فيه، وذلك من خلال صرف الناس عن تعلّم أي شيء بنّاء وواقعي وفعّال، والعبث بالنسق الاجتماعي، بخلق منظمات وهمية، تهدف إلى نزع الإحساس بالمسؤولية لدى المجتمع، وإضعاف الحس الوطني والولاء للبلد وحكومته، وفي الغالب، يتم ذلك بواسطة دعم رموز إعلامية لم تكن معروفة سابقاً، ولا تحظى بقبول الناس، لكنها وَجَدت دعماً غير معلوم، وأصبحت ذات تأثير كبير في الحياة الاجتماعية، بطريقة تتفق مع من يحرك خيوطها سراً.

وأكمل: أما زعزعة الاستقرار فبإذكاء النعرات الطائفية والعصبيات في المجتمع المتماسك لتمزيقه، وتقديم قدوات زائفة، لتسطيح الفكر المجتمعي، ونقل المجتمع إلى البحث عن سفاسف الأمور، والجري وراء الموضة والملذات، وفقدان الحس بأهمية احترام الوطن وأُسسه ورموزه، بالاعتماد على الخونة المندسين، وأصحاب الأجندات المريبة والمطامع الشخصية، وعملاء موالين لدول معادية، يمكن شراؤهم وتجنيدهم، ثم دعم الجميع مادياً بطريقة غير ملحوظة، لجر البلد إلى أزمة قد تستمر من شهرين إلى ستة أشهر، تنتج عنها فوضى سياسية وانفلات أمني، والدخول في نفق مظلم، أو جر البلد إلى حرب أهلية، تؤدي إلى تقديم شخصيات تم تلميعها مقدماً لتتصدر المشهد السياسي، وتدين بالولاء لعدو الأمة.

ألا ينتاب بعضكم شعور وإحساس بأننا فعلاً مررنا بمعظم هذه المراحل؟

طلال عبد الكريم العرب