أنا حسن الظن بالمستشرقين عامة، أقدر جهودهم، وأقر بفضلهم في إحياء مخطوطات التراث العربي الإسلامي في مجالات علوم القرآن والحديث والتاريخ والأدب العربي، ومن الطبيعي عدم إيمان المستشرقين عامة بنبوة محمد، عليه الصلاة والسلام، ولا بسماوية القرآن، ذلك لا يقدح في كفاءتهم البحثية، ولا منزلتهم العلمية.

لقد أفدت من مناهجهم البحثية والنقدية للنصوص، فلست بالذي يبخس جهودهم «ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا».

Ad

عودت نفسي الفصل بين القول وقائله، فقد يكون القول حقاً في ذاته رغم خلافنا أو عدم محبتنا لقائله، لكن الحق لا يعرف بالرجال بل يعرف الرجال بالحق، وحتى أُنصف المستشرق الألماني بوين في تقييمه لمصاحف صنعاء قبل تقييمي لملاحظاته، أوضح أن هناك تصريحات متناقضة منسوبة إليه حول هذه المصاحف.

فما الحقيقة؟

أولاً: فإن بوين إذ يدعم استنتاجات المستشرق جون وانسبرو وتلاميذه أن القرآن الذي نعرفه لا يرجع إلى زمن محمد (عليه الصلاة والسلام)، طبقاً لمقالة نشرتها أتلانتيك الأميركية الشهرية، يناير 1993 «ما القرآن؟» لتوني ليستر، جاء فيها : «فكرتي عن القرآن أنه، على الأرجح، كوكتيل من النصوص التي لم تكن كلها مفهومة حتى في زمن محمد (صلى الله عليه وسلم)... العديد منها ربما كانت أقدم بمئة عام من الإسلام نفسه، هنالك كم ضخم من المعلومات المتناقضة المتضمنة طبقة مسيحية مهمة، ومن الممكن للمرء أن يكون منها تاريخاً مناظراً للإسلام».

وتزعم المقالة أن «القرآن يدعي لنفسه أنه مبين أي واضح ولكنك إن نظرت إليه فستجد بعد كل عبارة رابعة تقريباً، عبارة خامسة لا معنى لها».

ثانياً: ما إن وصلت هذه التصريحات لليمنيين حتى ثارت ثائرة الصحف اليمنية، مما دفع القاضي الأكوع للاستفسار شخصياً من بوين عن حقيقة تصريحاته.

فماذا قال بوين في رسالته للقاضي الأكوع؟!

أرسل بوين وزميله في تحقيق مخطوطات صنعاء المستشرق بوتمر إلى ﺍﻟﻘﺎﺿﻲ الأكوع رسالة تنفي صحة التصريحات المنسوبة إليه في المجلة الأميركية جملة وتفصيلاً وأنها «ليس لها أساس» أي أنكر أنه أدلى بهذه التصريحات للمجلة الأميركية، لكنه لم يكتف بذلك، بل أكد أيضاً: «وليس لها أساس فيما يخص المخطوطات الصنعانية»، وكرر: «ولا أساس لها بالنسبة إلى البحوث القرآنية التي نقوم بها أنا وزميلي الدكتور بوتمر»، بل إنه دافع عن مصاحف صنعاء، فقال: «المهم ولحسن الحظ لا تختلف هذه المصاحف الصنعانية عن غيرها في متاحف العالم ودور كتبه إلا في تفاصيل لا تمس القرآن كنص مقروء، وإنما الاختلافات في الكتابة فقط».

الآن أيهما نصدق: ما نشرته المجلة الأميركية أم رسالته للقاضي الأكوع؟

أنا أميل إلى الثاني:

1 - بوين نشر مقالة صغيرة «بعض الملاحظات على المخطوطات القرآنية المبكرة في صنعاء» ضمن كتاب «القرآن نصاً» لشتيفان فيلد 1996 ذكر فيها أن ملاحظاته على مصاحف صنعاء لا «تزعم شيئاً جديداً»، وجاء فيها أن ملاحظاته هي:

أ- حذف الألف: وهي ظاهرة معروفة في المخطوطات الحجازية مثل : بصحبكم = بصاحبكم، وسحر = ساحر، وكنوا = كانوا، وقلوا = قالوا، (أبَؤكم) و (أبَاؤُكُم) بلا ألف في المصاحف الحجازية، لكن القراءة الشفهية هي التي تفرق بينهما.

وفسر هذه الأمثلة بأنها «تفترض وجود تقليد شفهي لمعرفة القراءة الصحيحة»، أي أن قراءة القرآن عمدتها النقل الشفهي بغض النظر عن اختلاف الكتابات.

ب - القراءات: مصاحف صنعاء تضم كثيراً من القراءات غير موجودة في كتب القراءات القرآنية مما يؤكد أن القراءات السبع أو العشر أو الأربعة عشر المعروفة اليوم هي أحدث مما هو موجود في تلك المخطوطات.

ج - اختلاف ترتيب السور: سورة «الصافات» تعقب «الشعراء» وهذا مخالف للترتيب المعروف، وظن بوين أنه «اكتشاف» جديد يتحدى القول بأن ترتيب السور توقيفي لا اجتهادي من الصحابة.

في المقال القادم تقييمي لملاحظات بوين.

* كاتب قطري

د. عبدالحميد الأنصاري