استطاع الكاتب والروائي الجزائري المعروف بومدين بلكبير، أن يصل بإبداعه إلى كل ربوع العالم العربي، بعد سلسلة من الأعمال الإبداعية المتميزة، منها رواية «خرافة الرجل القوي» (2016)، ورواية «زوج بغال» (2018)، ورواية «زنقة الطليان» (2021) التي وصلت إلى القائمة الطويلة في الجائزة العالمية للرواية العربية - 2022، قبل أن يطل علينا بكتابه الجديد «عدوّ غير مرئيّ: يوميّات روائيّ في الحجر».

وهذا الكتاب الجديد استنفر أقلام العديد من الأكاديميين لتقديم قراءة فيه، ويصفه الناقد الجزائري الدكتور محمد بكاي، بأنه عمل جديد ومختلف، وكتابة تقذفنا داخل مدارات العزلة، لتدوّن بمهارة وحذاقة انطباعات مواطن يحاول تخطّى عبث يومياته في ظلّ تفشّي الوباء. ترغمه تلك التأملات على عبور الهاوية، وتفادي الغرق في وحل التشاؤمية. يجول بنا بومدين بلكبير في تضاريس اليومي وتفاصيله البسيطة والكثيفة، ويكشف عن العاهات التي تشلّنا، والبؤس الذي ينخرنا حتى النّخاع.

Ad

«عدوّ غير مرئيّ» هي يوميّات تكابد ضحالة الواقع ومرارة العيش، كما تستحضر وعي الكاتب ولاوعيه معاً لما يرغب في قوله، حينما يباغته سؤال العدم، ويتعذّر الكلام في حضرة اللاشيء، يتجاوز كل ذلك ليقف عند هاوية الصَّمت واللامحدد، مستشعرا فضاء الحقيقة المتمنّعة عن القول، وتحسّس الرغبة التي يسيطر عليها اللامعنى والعدم. ينسحب الكاتب بهدوء إلى جسد الكتابة ليدوّن كيف يلتذّ بتأمّل دائرة الحياة الحلزونية بنعمها وشقائها. في أبسط صُور الممارسات العادية والنشاطات الرّوتينية، كيف ينجو الكاتب – عبر كتابة صفحات يوميّاته - من هذا العبث الذي يغرقنا في المبتذل والتفاهة.

من أوّل وهلة تبدو هذه اليوميات كأنها لا تروم شيئا، لكن الهوامش السّردية تخلق خريطة لابتكار آخر ناجم عن تكتيك كتابي لاكتشاف الـمعاني الدّاخلية (الذات) والخارجية (العالم). يوميات بلكبير سرديات هامشية تعرّي الواقع وتكشف تفاصيله بدقّة وحِدّة، وهي سردٌ لا يبالي بخصوصية فنيات تثقل كاهل الكاتب.

وقد جاءت لغة بلكبير في يومياته رقيقة تبلغ أقصاها لأنها موعودة بالحفر في مقبرة الوجود عن آثار البقاء وملمح الخلاص، كلام لا يحجم عن الانفصال عن كل شيء لتتورط كتابته في المساس بحنين الأنا إلى الحياد والفقدان.

«عدوّ غير مرئي» يوميات تمارس التداعيات الحرّة وتناثر الذات الـمتحدثة، لعبور الفضاءات والأزمنة، مشكّلة خرائط لحالات الكآبة واللاجدوى وفقدان الإرادة، كتابة تقترن بالعبث والرّفض والتعنّت. كتابة الحياد عند بلكبير توق إلى الطّمأنينة وضدّها، إذ تجتهد لتحقيقها لكنها تخفق في إحلالها في كنف عالم شنيع، هو عالم الخيبات، فيعود الكاتب إلى درجة الصّفر، حيث يفقد الرّوح والحسّ والجسد فيبزغ امتداد الخواء واتّساع الرؤية وإخفاق العبارة.

هذه التجربة السّردية الجديدة عبارة عن شذرات حميمة تحتضن صوراً مشحونة بغير القابل للتمثيل، نصيات تؤوي داخلها أحداثا لا نعرف مآلات لها، فنحن نقاوم العبث فقط، عبر اللّغة والحَكي نخلق عالما خياليا ممزوجا بشتات الواقع لتسمية ما لا موضوع له، لضبط نقطة بلا نهاية، هكذا يرتسم نصّ بومدين بلكبير في فضاء مأهول بالفراغ.

بعيدا عن البذخ البلاغي والانحراف اللّفظي، تشعّ نصوص بومدين بلكبير كعزلة لا يسعها شيء، إلا الإنصات لليوميّ، حيث تتسكّع سردياته في سكينتها ومكرها لتحيط بما هو عادي ومعقّد وكثيف. لغة شفافة تدفعك أثناء القراءة إلى الاسترسال معها داخل لعبة الحياة وشقاء الوجود، وسط تأمّلات ذات منعزلة تواجه ذاتها بكدّ وعناء. تشكّل هذه النّصوص استردادا للضّائع واللاشيء، طقوس الكتابة لديه عرضة للكتابة عمّا لا محلّ له، عن «اللاشيء، الفراغ، العدم، اللاجدوى»، وهي نصيات لا تؤمن إلا بتحطيم ذاتها كما قال رولان بارت. وهذا اللاشيء الذي يكتب عنه بومدين بلكبير ينغمس بإحساساته وتجريداته داخل منطق الصّمت والهباء واللايقين، درءاً لمكر الأنا وانقباضات اللغة التي لا يثق فيها.

يضيف بلكبير عبر نصّه هذا انتعاشا لفنّ اليوميات، عبر تقديمه نقلة يشع من خلالها العسر واليُسر والفرح والقرح والبؤس والأمل، نصّ يتحرّك فيه كلّ شيء بصمت.

●أحمد الجمَّال