«كنتُ وحيداً بينَ أوراقي

أبحثُ في الدفاترِ العتيقهْ

Ad

عن قصةٍ عتيقهْ

لعلّها تبعثُ فيَّ أشواقي

للسنةِ الجديدةِ... العتيقهْ

وإذْ أنا بين الدفاترِ

والصدأُ القديمُ في مشاعري

دَقَّ عليَّ البابَ في عُجالةٍ إيادْ....»

أسعد الله أوقاتك بكل خير يا أبا فراس

كنت أقلب أوراقي التي دوّنتها أيام كنا نجلس معًا نتحدث عن تجربتك الشعرية، تقرأ شعرك وأسألك عن القصيدة وظروفها الإبداعية، كما استمعت إلى بعض التسجيلات الصوتية التي سمحت لي بتسجيلها معك منذ عام 1999، حينها كنت عدت للتو من القاهرة بعد حصولي على درجة الماجستير، إذ وجّهني شيخي وأستاذي خالد سعود الزيد (1937 - 2001)، رحمه الله، حينها للتواصل معك والعمل على كتابة سيرتك ودراسة شعرك، وكان توجيها لاقى هوى في نفسي، فأنا مُولع بشعرك منذ كنت طالبا في الجامعة، أقرأ قصيدتك «غادة» أحفظها عن ظهر قلب، وأردد أبياتها:

«يا غادةْ

يا نَغَمَ الأغضانِ الميّادهْ

في فجر صيفي الأنسامِ

يا أعذبَ من أعذبِ أحلامي

يا نهراً من طِيبِ العنبر

تحرسُهُ الأقمارُ الصيفيه

يا أحلى من قطعةِ سُكْرْ

في فم طفلة»

وحين جئتك وبدأنا بالحديث عن سيرتك ومسيرتك كنت سخيًّا صبورا سمحا وأنت ترد على أسئلتي، تعلّل أحيانا، وتفسّر أحيانا، وتلوذ بابتسامة في أحيان أُخَر. الجلسات كانت حميمية، فيها قدر كبير من المصارحة، وقلبك كان مفتوحا على مصراعيه لي، لم تبخل عليّ بشيء في هذه الجلسات، وبُحتَ بما لم تبُح به من قبل من أسرار وأخبار وإشارات تضيء لي الدرب في فهم شعرك ودراسته.

كأنني أسمعك الآن وأنت تردد هذين البيتين أكثر من مرة مزهوا بما أنت عليه من موقف وأخلاق، ومن محافظة على النفس وصونها مما يدنّسها في «سوق الحراج»:

تزيَّتْ بأخلاق هشيم حصينها

وأبدت دلالاً والدلالُ يشينها

تحاول إغوائي وغيري خدينها

ولي حافظ منّي ومنها قرينها

تذكرت أيضا قصيدتك «لستُ وحدي ولاتا تغني».. فأنت - كما قلتَ - لستَ وحدكَ، ولست غريبا، تحيا بما في داخلك من طاقة نورانية، فتنظر خلاف ما ينظرون، وتسمع غير الذي يسمعون، فلم يزل قمرك يشعشع أنىّ يكون المسير:

«أنتم الغرباءُ وما تشعرونْ!

تصخبون المجالس بالدعوات، وإذ تختلون

تقيمون للسُّحت حفلاً كما تشتهون

وهذا التراث الذي تفخرون

خرائب تلعنكم في المحاكم

والحقد ينهشُ أعراضَكمْ

بعد ما تُقْبرونْ».

هذه الحدة في التعبير من خلال توجيه الخطاب بضمير المخاطب تكشف عمّا تحمله من ثورة داخلية على تلك الزمرة التي تحيا في زمان المزادات ملطخة جباهها بالدنانير، كل شيء هنا في المزاد، كتب.. صحف تُشترى وتعار:

تفرج على ما ترى واتخذ موقفاً

فإما تباع وإمّا تعار

إذا أنت لا تستطيع الشراء

فكن بعض ما يقتنيه التجار

أبا فراس، تذكرت أيضا صفة من صفاتك الآسرة والمتأصلة في شخصك منذ صباك وهي الإيثار، حين آثرت من صغرك العمل لمساعدة والديك على أعباء الحياة، متجردا من أنانيتك، ومسخّرا كل جهدك وطاقتك الشبابية لإسعاد أبويك بلا كلل أو ملل أو منّة.

لم يزل عبق تلك الجلسات والأحاديث عالقا في خلدي حاضرا في ذاكرتي، يدفعني للحديث معك حديث يلوذ بضمير المخاطب وينفر من ضمائر الغياب، فكما أن الإبداع هو فعل يقاوم الغياب ويؤكد الحضور، كذلك أنت لديّ حاضر لا تغيب، ويعزّ عليّ أن أتحدث عنك بضمير الغائب، وكأني بك تنشدني بلسان الحال وتقول:

«مسكين من يغفو فوق سريرِ التجارْ

يخدعه الريش الناعم ثم ينام

الحلم الأخضر يغري عينيه بكل ملذات الدنيا

ثم يفيق على كرسي منهارْ»

أنت حاضر يا أبا فراس في ما كتبت من أشعار ودونت من مقالات بروح كويتية وطنية بسيطة في تعبيرها وتصويرها، لا تتكلف في اختيار الألفاظ وتشكيل الصورة، فلغتك مأنوسة قريبة من لغة الناس، وكذلك أثر البيئة واضح في شعرك، تؤمن بالبساطة في كل شيء، ولم تزل تحرص على أن يكون لك موقف في القضايا الاجتماعية والوطنية والسياسية تعبّر عنه شعرا:

«لا تلتفتْ

ما عاد شيءٌ يستحقُ الالتفاتْ!

واضرب بخطوِك في المجاهلِ، في الدروبِ الموحشاتْ

أو في البحار الساجراتْ

وفي الرياحِ السافياتْ

لا تلتفتْ؛ إلا إليكَ ودَعْ قطيعَ الماشياتْ

النابحين على الطريقِ وفي سراديبِ الدخانْ

الراقصين على أنينِ المتعبين ولاعقي سقْطَ الفُتاتْ

قاوم ليالي القهر وانشد حلو شِعرَك في البساتينِ

المواتْ

فغداً يجيء يُعيد للأرضِ الحياةْ»

● د. عباس يوسف الحداد