عشرون سنة مرّت على بدء العمل بجدار الفصل العنصري في مسلك متعرج قسّم قرى الضفّة الغربية، وضمّ جزءاً كبيراً من أراضيها الزراعية، وعزل بعضاً من بيوتها، وفرّق بين عائلاتها، بذريعة الحماية الأمنية للمستوطنين الصهاينة على إثر «انتفاضة الأقصى».

تمرّ الذكرى الأليمة، والقضيّة الفلسطينية تتراجع إعلامياً واهتماماً من قضية مركزية الى قضيّة منسيّة، ولا أهمية للسؤال عن السبب والمسببين- داخلياً أو خارجياً عربياً أوغربياً- طالما أنها بقيت، ولو بصمت أو خجل، حيّة في الوجدان الشعبي وفي الاهتمامات المتناثرة لبعض العاملين بالشأن العام، وفي الشعارات الجذّابة لبعض القوى الفلسطينية والعربية، ذلك يبشّر بأن الجمّر المتوقدّ تحت الرماد سيخرج يوماً شعلة مضيئة.

Ad

استذكار القضية الفلسطينية وما يرتبط بها من تفاصيل قد يبدو اليوم وكأنه خروج عن المألوف ومحاولة بائسة لاستعادة ماض سحيق، ولكن الحقيقة أن هذه القضية، مهما أخطأ الكثيرون بحقها وأولهم «أولياء الدم»؛ ومهما تناسينا وجودها أو شغلتنا عنها همومنا الكبرى والصغرى، ستبقى منبعاً ومصبّاً لكل ما يدور في المنطقة العربية من انكسارات أو انتصارات.

صحيح أن كلا من لبنان، سورية، الأردن مصر- التي أطلق عليها الرئيس جمال عبدالناصر مصطلح «دول الطوق العربية»- هي أكثر البلدان تأثراً بالقضية الفلسطينية بسبب التماس الحدودي وما فرضه ذلك من تداعيات أمنية وموجات نزوح وتهجير، إلا أن قمة التجاهل ومنتهى النكران ادعاء أن كل ما يحصل في دولنا المختلفة منذ عام 1948 حتى اللحظة لا يرتبط بشكل أو بآخر بتداعيات الاحتلال الإسرائيلي لفسلطين العربية.

فلنتخيل منطقتنا المرتعدة على وقع الحروب والأزمات المتكررة عاشت أو تعيش دون الشوكة الصهيونية التي تلهب خاصرتها؟ هل كان لشعارات الثورة والمقاومة ولجبهات الممانعة والتصدّي من وجود أو حجة؟ وهل كانت هذه الشعارات بذاتها سبباً لبعض خلافاتنا؟ وهل كان للغة التخوين والشقاق المبنية على الموقف من «التطبيع» حاجة أو وحضور؟ وهل كان لبعض السياسات الغربية مبرر لكل هذا الميلان عكس مصالحنا؟ وهل كان للمنظمات الفلسطينية أي بصمة أو دور في الانقسامات العربية-العربية؟ وهل كان للصراعات المسلّحة وللحروب الدامية وللاحتلالات والغزوات التي شهدتها المنطقة من مسبب أو ارتباط إقليمي؟

الجواب طبعاً يتجه نحو النفي لولا أنه ما زال يعيش بيننا من يحتفظ في تكوينه العقائدي وبصمته الوراثية بشيء من تراث «الجاهلية» التي شهدت عدداً من الحروب وكثيراً من المؤامرات، وذلك كله بغطاء من وهم الشعارات البائدة والتقاليد المدمّرة كالانتصار لكرامة مزعومة أو نصرة للأسرة أو للقبيلة أو حتى للأوثان.

صحيح أن تحصين أوطاننا يبدأ بترتيب شؤوننا الداخلية وتحديد أولوياتنا مع أهمية سد المنافذ بوجه كل التهديدات الاجتماعية والعسكرية وكل المطامع السياسية والاقتصادية التي تستهدف بلداننا وشعوبنا، وصحيح أن ذلك نهج ضروري للنهوض بأنفسنا كي نتمكن تالياً من نصرة الآخرين من الأشقاء والأصدقاء والحلفاء، ولكن الأكيد والصحيح أيضاً أن المسابقة مع الزمن وحسن قراءة التجارب والتفاعل مع الواقع والمتغيرات واجب لا يقلّ أهمية ولا ضرورة عن التفاتنا الى ذواتنا.

كل ما يرتبط بالقضية الفلسطينية من تداعيات أو إخفاقات، من سقطات أو لا مبالاة، تدفع فاتورتها كاملة دولنا وشعوبنا العربية، مما يزيد العبء ويقلل فرص التركيز على نهج التمكين الداخلي، وقد وصلت بنا الحال أننا لم نفلح في إنقاذ ذواتنا، رغم تناسينا القصدي أو اللا إرادي للقضية المركزية، كما لم ننجح في استعادة حقوقنا المقدسة في فلسطين.

استذكار جدار الفصل العنصري، وهو ليس أقسى الفصول إيلاماً في ملهاة التراجيديا الفلسطينية-العربية، يحفّزه اليوم جهل الأجيال الحالية بالقضية الأم، ويبرره تجاهل البعض لتأثيراتها المباشرة وغير المباشرة على المنطقة والعالم.

طريقة المقاربة الإسرائيلية لمسألة الجدار العنصري الذي أسماه المجرم آرييل شارون «السياج الأمني» وأسلوب التعامل الفلسطيني والعربي مع المسألة هو مثال تعمدت استذكاره للإضاءة على جانب من فشلنا المزمن في التصدي للتحديات الكبرى ومجابهة الأخطار العظمى، إذ عادة ما نكتفي بالعويل حيناً، واللا مبالاة أحياناً، وبالتخبط في أغلب الأحيان، مما ينعكس علينا سلباً بالمديين البعيد والقريب.

روّج العدو أن هدف «السياج الأمني» هو حماية حياة المواطنين الإسرائيليين من «العمليات الإرهابية» التي تطولهم تكراراً، وقد تجاهلت سلطة الكيان المحتل، بإصرار واستفزاز وغطرسة، كل النداءات والتنديدات التي تفضح تعدّيها في بناء الجدار على حقوق مئات الآلاف من الفلسطينيين وانتهاكها لأحكام القانون الدولي وشرعة حقوق الإنسان.

وهذا ما دفع حتى قضاء العدو المتمثّل بمحكمة العدل العليا الإسرائيلية لإصدار قرار في يونيو 2004 يوجب الأخذ بالحسبان «الاعتبارات الإنسانية للمدنيين الفلسطينيين أثناء تخطيط وبناء الجدار»، إلا أنه وبعد عام تقريباً تراجعت المحكمة- بتأثير وعودة للتوجهات العنصرية- عن مضمون قرارها السابق معتبرة أن «الجدار لا يخالف القانون الدولي، وأنها ستواصل فحص تأثير مقاطع من الجدار على السكان الفلسطينيين»!

وفي السياق الدولي المتفاعل خجلاً مع قضايانا المصيرية، أصدرت محكمة العدل الدولية رأياً استشارياً غير ملزم مفاده أن الجدار يخالف القانون الدولي، ومن الواجب تفكيكه وتعويض المتضررين منه، الأمر الذي أكدت عليه لاحقاً الجمعية العامة للأمم المتحدة.

في المقابل، جابهت القوى السياسية العربية والفلسطينية هذا التعدي السافر بسلاح فعله الأشد يلامس تأثير أوبريت «الحلم العربي» على واقعنا المضني وتطلعاتنا الموسومة بالخيبة، فللأسف، وعلى ذمة ما نقل عن التحقيق الذي تولته لجنة مختصة في المجلس التشريعي الفلسطيني، حاولت شركة LTD الإسرائيلية التي يرتبط عملها ببناء الجدار استيراد الإسمنت من شركة مصرية، الأمر الذي لم تفلح به نتيجة بعض الحملات والضغوط الرافضة، مما دفع المسؤولين عن الشركة الى التحايل واستيراد الإسمنت عبر شركات وسيطة فلسطينية استصدرت أذونات استيراد للإسمنت المصري من وزارة الاقتصاد الوطني، وقد بلغ مجموع ما تم استصداره من هذه الأذونات ما يقارب 420 ألف طن!

هذه السطور أعجز من أن تحيي العظام وهي رميم، ومقاصدها أقل طموحاً من تحويل الضعف الى قوة، وواقعيتها أصلب من تتوه في أضغاث الأحلام الكبرى، لكنها في الوقت نفسه صرخة ضمير صادقة تحاول لفت النظر الى واقع حال لن يتغيّر الا بالقدر الذي نغيّر به أنفسنا.

* كاتب ومستشار قانوني.

* د. بلال عقل الصنديد