كلمات رائعة كتبها الفقيه الدستوري الراحل د.عوض المر في تقديمه لمجموعة من مجموعات أحكام المحكمة الدستورية العليا في مصر، خلال فترة رئاسته لها، حيث أصبحت أحكامه تدرس في جامعة هارفارد وغيرها من الجامعات الأميركية والأوروبية يقرر فيها نهج المحكمة في تفسير النصوص الدستورية.

«لا يتصور أن تقهر النصوص الدستورية لحملها على أن تقدم الحلول ذاتها لأوضاع متغيرة بطبيعتها، وبما ينافي متطلباتها، ولا فهمها على ضوء فلسفة بعينها كانت تمثل توجهاً غدا منصرماً، ولا يعدو الإصرار عليها أو القبول بها وتطبيقها بآلية عمياء أن يكون حرثاً في البحر، وتنكباً لآمال عظام غدا مصير الوطن مرتبطاً بها، وعدولاً عن القيم الأعلى التي يتطلبها تحريره سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، فلا تكون التنمية في محيطها إلا منظومة متجددة روافدها، دافقاً عطاؤها نابضا جوهره بالحياة».

Ad

الأمير حكماً بين السلطتين

تذكرت هذه الكلمات الرائعة للفقيه الدستوري الراحل والتجربة الديموقراطية الكويتية، تجتاز أصعب وأدق مراحلها في أزمة دستورية خانقة بدأت بأول استجواب يوجه إلى رئيس الحكومة، ويسفر عن قرار من المجلس بما ارتآه من عدم إمكان التعاون مع رئيس مجلس الوزراء، فلا يترتب على ذلك تنحيه (والوزارة بالتالي) كما هو مقرر بالنسبة للوزير، وإنما يكون الأمير حكماً في الأمر بين السلطتين إعمالا للمادة (102) إن شاء أخذ برأي المجلس وأعفى الوزارة، وإن شاء احتفظ بالوزارة وحل المجلس.

وقد أخذ الأمير برأي المجلس وأعفى الوزارة من الحكم ليرسخ الطابع الشعبي للحكم في الرقابة البرلمانية، إلا أن الأمور لم تهدأ في المجلس لحين تعيين حكومة جديدة بل زادت الأزمة اشتعالا، فأصبحت اجتماعات المجلس تعقد في غياب أغلبية الأعضاء المنتخبين الذين قاطعوها لتعطيل اجتماعات المجلس على ظنٍّ منهم بعدم جواز حضور الحكومة المستقيلة اجتماعات المجلس، الأمر الذي يفقد نصاب الاجتماع، وهو رأي أُبدي في جلسة مجلس الأمة بتاريخ 19/ 2/ 2001 من بعض الأعضاء، فرد عليهم النائب المحترم عبدالله الرومي بأن دعوة الحكومة المستقيلة إلى حضور اجتماعات المجلس هي دعوة صحيحة دستورياً، وأنه لا يجدر لنا كمجلس أن نتخلى عن سلطاتنا أو ننتقص منها بتعليق انعقادها أو عدم انعقادها على استمرارية الحكومة أو قبول استقالتها.

كلمة سمو ولي العهد

ومن هنا لم يجد صاحب السمو الأمير مناصا، من التدخل مرة أخرى حكماً بين السلطتين وبصفته الرئيس الأعلى للسلطتين بالاحتكام إلى الأمة مصدر السلطات جميعا، بحل المجلس حل دستوريا مع إجراء انتخابات جديدة، لتستأنف التجربة الديموقراطية مسيرتها الوضاءة، معبرة عن تطلعات المواطنين وآمالهم، وهو ما عبر عنه سمو ولي العهد في كلمته الجامعة المانعة، حين تحدث عن تصدع العلاقة بين السلطتين، وتدخل السلطة التشريعية في أعمال السلطة التنفيذية، وتخليها بسبب هذا التدخل عن عملها الأصيل، وسوء الإدارة الحكومية، لبدء صفحة جديدة مشرقة لصالح الوطن والمواطن، مطالبا المواطنين بأن يحسنوا اختيار ممثليهم بألا يكون اختيارهم لممثليهم أساسه التعصب للطائفة أو للقبيلة أو لفئة على حساب الوطن.

وكانت المحكمة الدستورية في الطعن رقم 15 لسنة 2012 (طعن انتخابي) قد نبهت إلى هذا الأمر مقررة بأن «يضمن التمثيل المتوازن لكافة شرائح المجتمع الكويتي وفئاته، ويحد من احتمالات الاحتكار الفئوي والقبلي في الدوائر الانتخابية، ويضمن الارتقاء بالممارسة البرلمانية لبلوغ الغايات الوطنية المنشودة، وأهمها تحقيق المشاركة الفعالة لجميع أبناء الوطن في إدارة شؤون البلاد، والقضاء على نزعات التعصب الفئوي، ومظاهر الاستقطاب الطائفي والقبلي التي تضعف مقومات الوحدة الوطنية وتؤدي الى فرقة المجتمع وتفتيته، وتخل بتمثيل البرلمان للأمة تمثيلا صحيحاً».

سلامة الأمة فوق القانون

وهو مبدأ أرساه القانون الروماني، وهو أبو القوانين الوضعية الحديثة، استمدت منه هذه القوانين بعض نظرياتها العامة، وقد درسنا هذا القانون في السنة الأولى في كلية الحقوق، وأعتقد أن هذا القانون لا يزال يدرس فيها، باعتباره أصل القوانين الوضعية.

وكما يتبنى القانون الروماني نظرية الضرورة، والتي تفرع عنها هذا المبدأ، تبنته مبادئ الشريعة الإسلامية التي هي مصدر رئيس للتشريع إعمالا للمادة الثانية من الدستور.

وقد تضمنت مجلة الأحكام العدلية التي كانت مطبقة في الكويت، إلى أن حل محلها القانون المدني في عام 1981، نظرية الضرورة في المواد التالية:

- الضرورات تبيح المحظورات (مادة 21).

- الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة أو خاصة (مادة 32).

- الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف (مادة 27).

- يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام (مادة 26).

ودفع الضرر عن الكويت وعن تجربتها الديموقراطية هو أول واجبات الفقه الدستوري في تفسير النصوص الدستورية لأن سلامة الأمة فوق القانون وفوق الدستور أبو القوانين، فلا تقهر النصوص الدستورية لحملها على أن تقدم الحلول ذاتها التي تطبق في الظروف الطبيعية التي يتولى الأمير سلطاته بواسطة وزرائه، ومنها سلطة حل المجلس، وقد أعفى الأمير الحكومة من الحكم، بعد أن رفع الأمر إليه ليكون حكماً بين السلطتين، فأخذ برأي مجلس الأمة في عدم إمكان التعاون مع رئيس مجلس الوزراء إثر الاستجواب المقدم إليه، وأسباب الحل واضحة في الكلمة الجامعة المانعة التي ألقاها سمو ولي العهد، والتي تُحمّل مسؤولية الأزمة المتفاقمة للحكومة والمجلس معا.

إن تشكيل الحكومة يتم بمراسيم يصدرها الأمير منفردا، يوقعها مع سموه رئيس مجلس الوزراء الذي كلف بأمر أميري بتشكيلها، فلا تثريب على أمر أميري يصدر بحل مجلس الأمة في هذه الأزمة المتفاقمة.

وقد تبنى الدستور نظرية الضرورة في أكثر نصوصه، فأجازت المذكرة التفسيرية للدستور عقد اجتماعات المجلس في غير الزمان والمكان المقررين لذلك، إذا دعت ضرورة لذلك، وفقاً لنظرية الضرورة بشروطها القانونية المقررة، بالرغم من أن المادة (90) من الدستور تنص على أن «كل اجتماع يعقده المجلس في غير الزمان والمكان المقررين لاجتماعه يكون باطلا».

وهو بطلان بنص صريح في الدستور ، فلا خشية من أن يتعرض الأمر الأميري بحل المجلس لبطلان تقرره المحكمة الدستورية في طعن انتخابي، للضرورة التي أملت على الأمير اتخاذه من ناحية، ولأن الأوامر الأميرية هي عمل من أعمال السيادة، وهي أعمال لا تخضع لاختصاص القضاء أصلا، إعمالا لأحكام قانون تنظيم القضاء.

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.

* المستشار شفيق إمام