أنتجت الحرب في أوكرانيا مجموعة من الأضرار الجانبية، منها مدرسة فكرية ركيزتها الواقعية، حيث يُصِرّ هذا الفكر التقليدي على تفوّق المصالح الوطنية على المُثُل العليا، مثل الالتزام بالتجارة الحرّة، وقدسية القانون الدولي، وفضائل الديموقراطية، ويُركّز الواقعيون على ما تفعله البلدان، لا سيما الدول الكبرى، للصمود وحماية نفوذها في السياسة العالمية. لهذا السبب، بدت الواقعية مقاربة مناسبة لتفسير الضرورات والحسابات الكامنة وراء الغزو الروسي لأوكرانيا، لكن سرعان ما أصبحت في مرمى النيران، فبدا وكأن الواقعيين يبررون تحركات الكرملين في مرحلة معينة، لذا اعتبر النقاد في أوروبا وأميركا الشمالية أبرز الأسماء المرتبطة بالواقعية غير مؤثرة ووحشية أو حتى مُستهجنة أخلاقياً.

وتعرّض العالِم السياسي جون ميرشايمر لأكبر قدرٍ من الانتقادات بسبب ادعاءاته حول أصل الحرب في أوكرانيا، فهو من أشرس المدافعين عن الواقعية، وقد أصرّ على الخطأ الذي ارتكبه الأميركيون وحلفاؤهم حين شجّعوا على توسّع حلف الناتو والاتحاد الأوروبي في المساحة التي يعتبرها الكرملين نطاق نفوذ له، مما أدى إلى تهديد روسيا وإطلاق حملتها العدائية. زادت الانتقادات ضد ميرشايمر عندما استعملت وزارة الخارجية الروسية أفكاره بعد بدء الغزو، وسرعان ما زاد الهجوم على مبادئ الواقعية ككل بسبب إصرار سياسي واقعي آخر، وهو وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كسنجر، على تنازل أوكرانيا عن أراضيها لاسترضاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

Ad

لكن يجب ألا يتخلى منتقدو الواقعية عن جميع التحليلات الصائبة بهدف مهاجمة فكرة معينة، إذ يغفل منتقدو الواقعية عن جانب بالغ الأهمية: تبقى الواقعية في جميع الأحوال مدرسة فكرية تحليلية وهي تُعبّر عن موقف سياسي في الوقت نفسه، مما يعني أن الأخطاء المرتكبة في المواقف السياسية لا تبطل منافع المدرسة الفكرية كلها، وعلى غرار أي إطار عمل نظري آخر، لا يمكن اعتبار الواقعية جيدة أو سيئة إذاً، فعند تفسير الحرب في أوكرانيا، وحتى لو كانت تحليلاتها غير منطقية أحياناً، تبقى هذه المقاربة قيّمة باعتبارها معياراً يسمح للمحللين بفهم دوافع الدول وتحركاتها في عالمٍ يزداد تعقيداً.

أبلت الواقعية حسناً مقارنةً بنظرية بديلة زادت شيوعاً خلال التسعينيات ولا تزال تثير اهتمام الأوساط السياسية حتى الآن: إنها الفكرة القائلة إن الظروف الجيوسياسية قد تتحوّل إلى «صدام بين الحضارات»، كما قال العالِم السياسي الأميركي صامويل هنتنغتون يوماً، وعلى غرار أفكار ميرشايمر الواقعية، كُتِبت أطروحة هنتنغتون غداة الحرب الباردة، فقد حاول المحللون والعلماء حينها استباق معنى انتهاء الهيمنة ثنائية القطب بالنسبة إلى العالم، وركّز ميرشايمر على عودة سياسة القوى العظمى، في حين ادعى هنتنغتون أن الاختلافات الثقافية والدينية ستحرّك صراعات المستقبل، فقد كان هنتنغتون يدحض أفكار ميرشايمر بهذه الطريقة، وعلى عكس المعسكر الذي يُشدد على أهمية الواقعية، توقعت نظرية هنتنغتون المرتبطة بالعوامل الثقافية أن تنشأ علاقات سلمية بين أوكرانيا وروسيا لأن البلدين، من وجهة نظره، ينتميان إلى الحضارة نفسها، لكن هذا التوقع انهار سريعاً.

في النهاية، تُجمِع معظم فروع الواقعية على الفكرة القائلة إن حمل السلاح جزء حتمي من الحياة، ولن يكون التعاون الدولي صعباً فحسب بل إنه بلا جدوى، فمن الغباء إذاً أن يتوقع أحد إيجاد الحلول للصراعات المستعصية والمنافسات الشائكة عن طريق التعاون بكل بساطة، فيما تحاول الدول تحقيق مصالحها الخاصة.

الواقعية تعتبر السياسة الدولية مرحلة مأساوية، حيث ينذر استمرار الحرب بضرورة أن تُركّز الحكومات على ضمان الأمن القومي، ولو على حساب الحريات والازدهار.

تكسب نظرية الواقعية أهميتها حين تُشدد على الآليات التي تحدّ من قوة الإنسان، سواء تعلّقت بطبيعة البشر الفطرية أو بتوزيع القوة العالمية، ويمكن استعمال الواقعية لتفسير خيارات السياسة الخارجية في بعض الدول أو سبب وقوع أحداث مثل الحرب، فقد تصبح الواقعية، كنظرية بحد ذاتها، أداة فاعلة جداً لشرح العلاقات بين الدول، لكن معناها يختلف حين تنتقل من وصف الأحداث إلى طرح التوصيات، فعندما تدخل هذه النظرية إلى معترك السياسة، فلا مفر من تحوّلها إلى شكلٍ من الواقعية السياسية التي تدعو الدول إلى إيجاد توازنها في وجه الخصوم ومحاولة حصد المكاسب بدل تقبّل القيود المؤسسية وفوق الوطنية التي تحدّ من حرية التحرك في الشؤون الدولية.

أصبح التمييز بين الواقعية كنظرية أو سياسة جزءاً من النقاش التاريخي حول الانتشار النووي، ففي بداية الثمانينيات، اعتبر عالِم السياسة كينيث والتز انتشار الأسلحة النووية تمهيداً لترسيخ السلام، فهو عارض الفكرة التقليدية التي تُصِرّ على تعزيز أمن العالم عبر الحد من انتشار تلك الأسلحة (إنه المنطق الكامن وراء نشوء معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية في عام 1970). خضعت فكرته لاحقاً للنقاش وسط المعسكر الذي يعتبر الانتشار النووي وسيلة لجعل العالم أكثر خطورة.

طرح والتز أفكاره عبر استعمال ملاحظة وصفية ومدروسة من الناحية النظرية (أي تراجع احتمال الحرب مقابل زيادة قدرات الردع والدفاع)، وطبّق هذا المبدأ على الأسلحة النووية (باعتبارها تُحسّن نظام الردع والقدرات الدفاعية داخل البلدان)، ثم استنتج توصيات حول نظرة صانعي السياسة الصائبة إلى انتشار الأسلحة النووية. برأيه، يجب أن يرحّب الجميع بهذا الانتشار بدل أن يخافوا منه.

في هذه المرحلة الأخيرة من التحليل، ينتقل والتز من وصف السياسة الدولية (السبب الكامن وراء سعي الدول إلى اقتناء أسلحة نووية) إلى طرح توصيات في مجال السياسات العالمية (السبب الذي يُفترض أن يدفع الدول إلى امتلاك أسلحة نووية). الطرح الأول يَصِف الأحداث والثاني يبرره، إنهما نهجان فكريان صائبان، لكن يجب ألا يخلط أحد بينهما، فلا يُمهّد فهم أحداث العالم بطريقة معينة لإطلاق رد سياسي واضح بالضرورة، ففي هذه الحالة، كانت العوامل التي دفعت والتز إلى تبرير انتشار الأسلحة النووية ستدفعه إلى طرح توصيات معاكسة، مما يعني أن تُحقق الدولة أهدافها الأمنية من دون تلك الأسلحة، فتضع نفسها مثلاً تحت المظلة النووية الخاصة بقوة كبرى، وتسهم النظرية الواقعية في وصف العالم، لكن تعكس التوصيات المشتقة منها تفسيرات فردية ولا تُعبّر عن النظرية بحد ذاتها.

في الوقت نفسه، تظهر الواقعية كسياسة بحد ذاتها في النقاشات المرتبطة بضبط السياسة الخارجية الأميركية، ويهدف مؤيدو ضبط النفس إلى التصدي لسياسة التعاون الدولية الليبرالية، أي الفكرة القائلة إن الولايات المتحدة مُلزَمة بالتدخل في الخارج، ولو عسكرياً عند الحاجة، لدعم النظام الدولي المبني على قواعد واضحة والحفاظ عليه. في المقابل، يدعو مؤيدو ضبط النفس الولايات المتحدة إلى تقليص بصمتها العالمية وعدم التورط في مسائل هامشية بالنسبة إلى المصالح الوطنية الأميركية، وكما هي الحال مع الجدل القائم حول الانتشار النووي، يجب ألا يخلط أحد بين دور الواقعية في النقاشات المرتبطة بتصرفات الولايات المتحدة في الشؤون الدولية من جهة، واستعمال الواقعية لوصف السياسة الخارجية الأميركية من جهة أخرى، إذ تستطيع الواقعية أن تفسّر سبب وصول الولايات المتحدة إلى وضعٍ جيوسياسي محدد، لكنها لا تقدّم جواباً واضحاً حول طريقة تصرّف البلد للتعامل مع ذلك الوضع.

لطالما شاركت شخصيات واقعية في الجدل المرتبط بأحداث أوكرانيا، ففي عام 1993، كتب ميرشايمر في صحيفة «فورين أفيرز» أن كييف يُفترض أن تسترجع مخزون الأسلحة النووية الذي ورثته بعد انهيار الاتحاد السوفياتي لأن موسكو قد تحاول استرجاع أوكرانيا يوماً، وبعد مرور عشرين سنة تقريباً، كتب ميرشايمر أن العدوان الروسي ينجم عن توسّع الناتو ومنح أوكرانيا وعداً بضمّها إلى الحلف، فبدأت روسيا تحركاتها بضم شبه جزيرة القرم في عام 2014. ركّزت هاتان المقالتان على طرح توصيات سياسية: بدل الاكتفاء بوصف تحركات روسيا، وأوكرانيا، والولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وحلف الناتو، قدّمت المقالتان اقتراحات حول ما يجب أن تفعله هذه الدول.

قد لا يوافق الجميع على تلك الأفكار، لكنها تعكس معنى الواقعية كسياسة بحد ذاتها، لا كنظرية بسيطة، فحين تكون الواقعية مجرّد نظرية، يسهل أن تكتفي بتفسير سبب وقوع الأزمات، فتستنتج مثلاً أن رغبة الدول الكبرى في السيطرة على مناطقها تعني أن روسيا ستحاول في نهاية المطاف إخضاع الدول المجاورة عسكرياً (أو حتى غزوها)، أو ربما تدفع الظروف القائمة بإمبراطورية سابقة إلى إعادة ترسيخ مكانتها، أو تتصرف الدول بطريقة يعتبرها البعض عدائية بحثاً عن أمنها.

لكن لا تعني هذه التحليلات كلها أن الواقعية أو أي نظرية أخرى تقدّم أفضل تفسير للحرب في أوكرانيا، بل تكثر التفسيرات الأخرى، بما في ذلك قوة القومية، والاختلاف بين أنواع الأنظمة في البلدين، وخصائص القادة أو نزواتهم، لكن الواقعية تقدم في المقابل إطاراً مفيداً لفهم بداية هذه الحرب، عملياً تكمن قوة الواقعية الدائمة في قدرتها على طرح ركيزة واضحة لفهم السبب الذي يجعل العالم مكاناً مليئاً بالألم واليأس.

* بول بوست

* بول بوست – فورين أفيرز