من «العولمة» إلى «الحوكمة»، ومن «صراع الحضارات» إلى «القطبية» السياسية، ومن «الإصلاح» الى «التمكين» مروراً بـ«الترشيد» وفضائل التعامل مع «الأزمات» وأهمية تحديد «الأهداف والمرتكزات» وصولاً إلى «الإدارة الرشيدة والرشيقة»، ومن تعزيز «أخلاقيات المهنة» إلى تحقيق «النزاهة»، ومن رفض التمييز «الجندري» الى مكافحة «غسل الأموال» ومحاربة «الإرهاب»، ومن التوازن «البيئي أو الأيكولوجي» إلى «التنمية المستدامة»، ومن «تحسين بيئة الأعمال» و«جذب الاستثمار الأجنبي» و«تشجيع» المشروعات الصغيرة والمتوسطة إلى «تحقيق الاستقرار الاقتصادي» و«التنمية الشاملة»، ومن نماذج «الأونيسترال» القانونية إلى «هبّة البادل» الرياضية، مروراً بـ«ترند» الاستعانة بـ«الـبنك الدولي» و«الـمكاتب الاستشارية العالمية»... وفي زمن هيمنة الإنترنت: من «هاشتاغ» وسائل «التواصل الاجتماعي» إلى ضرورات اللجوء إلى «التعليم عن بعد»، ولم ينته المطاف عند كلمة «الجائحة» التي لم نعتد سماعها أو استخدامها قبل انتشار وباء «كورونا» مالئ الدنيا وشاغل الناس!

كل ما سبق، وغيره من العبارات والمصطلحات التي تهيمن على يومياتنا المعاصرة، لم يعرفها من سبقونا في الحياة أو ربما استخدموا غيرها للتدليل على الأمور والأهداف السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو العلمية والثقافية نفسها، فقد لا يختلف كثيراً- لا في الدلالات ولا الأهداف- مصطلحا «تمكين المرأة» و«التمييز الجندري» المستساغ استخدامهما اليوم عمّا ساد في العقود الماضية من مصطلحات أو عبارات تحقق الأغراض نفسها كتعزيز «حقوق المرأة» ومكافحة «أي نوع من أنواع التفرقة والتمييز»!

Ad

فكثيرة هي العبارات المستحدثة التي درج استخدامها وتكرر تناولها من مجاميع الكتّاب وقادة الفكر وأصحاب الرأي أو القرار، بما يكشف عن تأثّر فئات «المثقفين» بما يطلق عليه بـاللغة الانكليزية مصطلح «ترند» أي الاتجاه الشائع الذي تجعله الظروف والمسببات مسلكاً إجبارياً ينبغي على الناس سلوكه للوصول الى الهدف نفسه.

لا شك أن معادلة التأثر والتأثير هي من بدهيات التفاعل الإنساني والتمازج الحضاري، فكيف الأمر إذا كان المؤثِّر في حالتنا هي المؤسسات الدولية والاتجاهات العالمية السائد، والمتأثِّر هي مجتمعاتنا ومؤسساتنا الرسمية والخاصة التي تعيش بين سندان الحاجة الملحّة للدخول في السباق العالمي، ومطرقة الضغوط الدولية التي تحاول- عن خبث أو براءة- إمالة الدفة لصالح معتقداتها وقناعاتها على كل المستويات!؟

فمنذ مطلع القرن الحالي، سلك الجميع درب «العولمة»، وسرعان ما صارت المصطلحات التي ترتبط بها لازمة متكررة في كل الأدبيات السياسية والفكرية والاجتماعية، ليس في مجتمعاتنا فقط، ولكن في كل مجتمعات الكرة الأرضية من أقصاها إلى «أقساها»، وكأننا أمام «مجلس قيادة عليا» يقود كل المجتمعات، يتحكم في القناعات، يروّج الشعارات، ويتلاعب في الاتجاهات، مستخدماً في ذلك الإمبراطوريات الإعلامية وسياسات التسويق والتشويق.

ليس غريباً أو مستنكراً أن يسيطر اتجاه فكري معين، أو أن تنتشر ثقافة محددة، أو أن تهيمن مصطلحات جديدة على أدبيات وتعاملات الناس في أي مجتمع أو في كل المجتمعات البشرية، فالتأثر الجماعي والتفاعل المجتمعي، كما اللغة والثقافة والخطاب السياسي وحتى الديني، سمتهم المرونة والتطور بما يحاكي متطلبات الظروف ويجاري متغيرات الحياة ويتناغم مع اختلاف الأجيال، ولكن الغريب والمعيب أن تصبح هذه المصطلحات شعاراً يتلطى خلف «بريستيج» استخدامه كل من يريد أن يحشر نفسه بين فئات «المثقفين» دون أن يدرك مضمونها، ومن غير أن يقتنع بمستهدفاتها، وبلا أن يساهم في تحقيقها.

فكم تكررت في أوراقنا الاصلاحية عبارة «أفضل الممارسات العالمية»! وكم صرفنا من جهود وأموال على مؤتمرات «التمكين» على اختلاف أنواعها وأهدافها! وكم نادٍ وكتب الجميع– بمن فيهم الفاسدون- بأهمية «الإصلاح» وتعزيز «النزاهة والشفافية»! وكم ارتبطت خططنا لبلوغ «التنمية المستدامة» بمخرجات مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية «الأونكتاد»، أو بما يحدده «البنك الدولي» من اتجاهات، أو بما يفرضه «صندوق النقد الدولي» من إصلاحات!

خلاصة القول أن ركوب الموج ليس محظوراً في ذاته، بل المحظور والمحذور أن يندفع من لا يتقن السباحة الى عباب البحر ليتخبط في مخاطره دون أن يلمّ بأبجديات النجاة من التخبط، ومن غير أن يتسلّح بوسائل الخلاص من الغرق، وذلك كله ليس من قبيل الشجاعة أو حتى المغامرة التي ربما قد تكون مبررة، بل فقط تقليداً لمن سبقه في مهارات السباحة بأشواط وتجاوز خبرة بأزمان.

***

من الأقوال المشهورة أنه «يمكن تعلم الحكمة بثلاث طرق: التأمل وذلك الأنبل، التقليد وذلك الأسهل، التجربة وهي الأقصى»، وأضيف- لاستكمال الهدف المرتجى من المقال- أن تعلّم الحكمة ينبغي أن يقترن بالعمل لبلوغها، وذلك وهو الأجدى.

* كاتب ومستشار قانوني.

* د. بلال عقل الصنديد