درجات الحرارة ترتفع ثم ترتفع ثم تزداد ارتفاعا، فيبعد الكثيرون عن متابعتها أو السؤال اليومي «كم درجة الحرارة اليوم؟»، إنه الصيف ذو المزاجين: الأول ينعش البشر وينشرهم أجساداً عند شواطئ ترى اللحم المتكوم بتنوعاته في هذا الفصل فقط، والمزاج الثاني شديد الصعوبة حيث الدرجات تصل إلى حد، وتقف بعده الأجهزة المعنية عاجزة عن الإعلان عن الحقيقة ربما خوفا من القوانين والأنظمة الدولية التي تنص على عدم العمل، وخصوصاً العمل في الشارع والأماكن المفتوحة، وربما للخوف الذي يداهم الناس عندما تصل درجات الحرارة في بعض عواصمنا ومدننا العربية إلى ما بعد الأربعين، حتى احتلت إحدى الدول بمدنها الخمس أعلى درجات في العالم، والصيف لا يزال في أوله... طبعا الصيف هو الآخر ينزل بسخونته على الفقراء والبسطاء وغير القادرين على تكلفة السفر بعيداً إلى مدن الجبال والجمال والطقس المنعش ولا حتى إلى مدن السواحل.

ورغم كل طقوس الفصول فإن الأكثر شهرة وإثارة منها هي طقوس فصل الصيف، فلن تستطيع أن تلتقي بشخص، إلا ربما نادرا، لم يعرف الاصطياف الداخلي أو الخارجي مرة على الأقل في حياته، كما أنه يرسل شموسه فتتلون الوجوه والأجسام حتى أن كثيرين يسعون جاهدين للحصول على بعض من السمار «التان» كما يفضلون تسميته، المذهل حقا هو كيف يتحول البعض من شديد العنصرية ضد أصحاب البشر السمراء أو السوداء ثم «يحرق» جلده في محاولة للوصول إلى ربع سمارهم، ألم يصبح الناس غريبين في أطوارهم أو استهلاكيين حتى في تقليد المشاهير؟!

Ad

كثير من المصايف القديمة بقيت في ذاكرتنا بنكهتها الخاصة جداً، ربما منذ أن دق حليم شمسيته ورحل من القاهرة إلى شواطئ الإسكندرية الساحرة أو المعمورة أو حتى رأس البر عندما وشوشت ليلى مراد لتلك الصخرة معترفة بحبها، نعم كانت المصايف وسيلة للتعارف البريء الذي يبدأ بابتسامة ثم تحية ثم لقاء، وتنتهي الصيفية بكثير من الزيجات أو علاقات الحب التي غزلتها النوارس وعمّدتها موجة بحر أو لفحة من شمس نهار حار.

وفي مدن أخرى كان يرحل الناس إلى البلدات الأقرب للبحر، حيث يسكنون العشش من سعف النخيل التي تسمح بتسلل نسمات المساء من فوق سطح البحر، لم يكن أحد يشعر بالرطوبة الشديدة المصاحبة للاقتراب من البحر والشمس معا، ولم تكن تزعجهم مشاركة الآخرين لهم في شاطئ طويل ممتد للجميع، لا تفرقة بين فقير أو موظف أو ثري، لحقت الخصخصة الشواطئ وطاردتها أيدي المستثمرين الجدد الباحثين عن كثير من الربح فقط، غير مكترثين لا براحة بشر ولا طير ولا موجة ولا قتل للطبيعة مع سبق الإصرار والتعمد!!!

رغم خصخصة البحار فإن البعض لا يزال يسعى إليه، فالشمس تقترب حتى لتخالها تجالسك وتشاركك أيامك، وفي اقترابها تزداد الحرارة حتى يصبح الهواء خانقاً، وفي حين تتنافس بعض المنتجعات والمقاهي وغيرها على كسب أكبر عدد ممكن من الهاربين من شمس إلى شمس أو ربما من شمس بإسمنت إلى شمس بموجة وبحر، يرحل كثيرون من بلدان بعيدة بحثا عن مساحة يغتسلون فيها فتزدحم المطارات والطرق السريعة في كل قارات العالم، وليس عندنا فقط، ولكن لدينا فقط يضطر المسافر أن يتحمل كثيراً من العناء لقلة احترام آدميته أو ربما لاعتياد أولي الأمر على إذلال العبد الذي تعوّد على ذلك، فلم يعد يرفع الصوت عاليا، ليقول لماذا عليّ أن أقف في طوابير كالثعبان الملتوي بمطاراتكم فقط لينهي الموظف قهوته أو غداءه أو ربما مكالمته مع زوجته، وفي مطارات العرب فقط يهان القادم حتى لو كان البلد في أشد الحاجة لـ«حفنة من الدولارات» أو لبعض من يخلق فرصة عمل لشاب فقد كل أمل في ما يسمى «الوطن».

في بلدان العرب فقط على الباحث عن نسمة صيف أن يدفع ثم يدفع ثم يدفع، في حين في الدول التي تملك مجالس منتخبة ومستقلة للشعب، وقضاء منفصلا عن جيب الحاكم، هناك قوانين تحافظ على حق المواطن في البحر كما هو حقه في الحياة والسكن والسعادة والعمل... له حق أيضا في الاستمتاع بجباله وبحاره وما تنتجه أرض بلده، وما يخرج من بحره من سمك وثمار مختلفة، لفقراء هذه الأرض كثير من شمس الصيف التي تنزل أحيانا كما يقولون مازحين لمشاركتهم عرقهم وقهرهم وكثيراً من الذل.

* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية

● د. خولة مطر