لا أستطيع أن أتصور أو يدور في مخيلتي أنني لن أراك ثانية، لقد تعودت على رؤيتك منذ أكثر من سبعين عاما، جمعنا بيت الأسرة، أحببتك منذ ولادتك، كنت تصغرني بعشر سنوات، فرحنا جميعا في ميلادك، ولما ذهبت للدراسة الجامعية كنت أنت في المرحلة الأولى من دراستك، كنت تراسلني وتطلب مني الرد على رسائلك الطفولية العفوية.

ومنذ ميلادك بدأت الحياة في بلادنا بالتغير السريع نتيجة لتدفق النفط، ترك الكويتيون الأحياء القديمة ليسكنوا المنازل الحديثة، وبعد تخرجي عملت مدرسا في التعليم الثانوي، ثم وكيلا وناظراً، وكنت يا شقيقي طالبا في المدرسة نفسها التي كنت أعمل فيها، لذلك كنت أصحبك في الذهاب والعودة من المدرسة، وبعد الزواج واستقلال كل منا في سكنه، أبينا إلا أن نجتمع على وجبة الغداء.

Ad

بعد هذه العشرة الطويلة والمحبة والعلاقات الطيبة التي دامت بحمد الله بيننا، أصبح صعبا عليّ التفكير أني لن أراك ولن أسمع صوتك، ولكن هذا ما قدره الله لعباده، فكم آلمني الفراق وأحزنني، وأصبحت الدموع حبيسة عينيّ، لا أعرف البكاء، فالبكاء قد يخفف الأحزان، لكنه لن يعيد من نبكي عليهم، كما يقول ابن الرومي مخاطبا عينيه وهو يرثي ابنه:

بكاؤكُما يشْفي وإن كان لا يُجْدي

فجُودا فقد أوْدَى نَظيركُمُا عندي

طَوَاهُ الرَّدَى عنِّي فأضحَى مَزَارُهُ

بعيداً على قُرْب قريباً على بُعْدِ

هذا ما قدره الله لمخلوقاته، قدّر لهم الفناء والزوال ولنفسه البقاء والدوام، فلا دائم إلا وجهه، أعمارنا وأرزاقنا وما نواجهه من مشكلات وفقدان أحبتنا والغالين علينا وحروب وفتن جميعها مكتوبة عند الخالق، قبل أن تواجهنا، وذلك كما يروي كتاب الله: «مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ* لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ». (الحديد: 22-23).

رحمك الله يا أخي وأسكنك فسيح جناته، وأنزلك منزلة عنده أفضل من منزلتك في حياتك الدنيا، كنت محباً للصلاة في المسجد مع الجماعة، حريصاً على أدائها في أوقاتها، لم تنقطع عنها إلا في مرضك الأخير، فواجهت مرضك بشجاعة وبسالة منقطعة النظير، وبارك الله في ذريتك وجعلهم من الصالحين، وممن يكثرون لك الدعاء.

د. عبدالمحسن حمادة