لم تكد بضع ساعات تمضي على الحلقة الأخيرة من المسلسل الذي أنتجته الشركة الكويتية للكيبل التلفزيوني «الملكة نازلي» ملكة في المنفى، والذي انتهى بفاجعة وجريمة بشعة في بلاط الأسرة المالكة المصرية في منفاها الاختياري بالولايات المتحدة الأميركية، عندما أطلق رياض غالي منذ نصف قرن تقريبا خمس رصاصات على زوجته الرقيقة الأميرة فتحية، كريمة الملك فؤاد الراحل وشقيقة الملك فاروق فأرداها قتيلة، حتى انتشر خبر جريمة قتل موظفين أميركيين في إحدى الشركات الاستثمارية الكبرى في أميركا، اتهم بارتكابها زميلهما رامي هاني فهيم نجل نبيلة مكرم وزيرة الهجرة، مما قد يحملها على الاستقالة من منصبها بحكم مسؤوليتها السياسية كوزيرة لشؤون المصريين في الخارج، مثلما فعل وزير التعليم في سويسرا، لأن أحد المحال نشر صورة لطفل يقطف زهرة من حديقة عامة، الأمر الذي اعتبر الوزير نفسه مسؤولا سياسيا عن فشل نظام التعليم في سويسرا لمخالفة الطفل للقيم الرفيعة التي تعارف عليها المجتمع السويسري في التربية وحماية البيئة.

وقد يبدو الأمر مضاعف الأثقال على الوزيرة، لأن المتهم بارتكاب الجريمة ليس مصريا عادياً من شؤون المصريين الذين تكون مسؤولة سياسيا عنهم ، بل هو نجل الوزيرة.

Ad

وقد ورد في سياق هذه الجريمة، وفي استهلال المقال، جريمة القتل التي ارتكبها رياض غالي في بلاط الأسرة المالكة المصرية، ما يجمع بين الجريمتين من المستوى الأسري والاجتماعي والأخلاقي للبلاط الملكي، ولأسرة الوزيرة التي كانت تعمل وقبل حملها الحقيبة الوزارية منذ تخرجها في السلك الدبلوماسي المصري، أن الجريمتين ارتكبتا في بيئة يرتفع فيها مستوى الفرد الثقافي والسلوكي وترسيخ مبادئ الحس الاجتماعي لديه، والقاتل في الجريمة الأولى، والمتهم بالقتل في الجريمة الثانية، يدينان بالديانة المسيحية وينتميان إلى الكنيسة القبطية، وهي الكنيسة الأعرق والأم لهذه الديانة، وتعنى عناية فائقة بأطفالها في مدارس الأحد، بتلقينهم دروسا في المحبة والتسامح، من إنجيل لوقا في قوله «من ضربك على خدك الأيمن، فأدر له الأيسر» (6: 29) ومن إنجيل متّى «أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم»، وإن كان قد أعلن إسلامه بعد زواجه من الأميرة وهو ما يطرح سؤالا هو: لماذا ترتكب في مثل هذه البيئة تلك الجرائم؟

المجتمع صانع الجريمة

وتذهب المدرسة الأميركية في علم الجريمة إلى أن المجتمعات لا ترزأ بالمجرمين بل هي التي تصنعهم، وإن الفرد لا يتورط في الجريمة نتيجة ميول إجرامية ذات أصول عضوية نفسيه، بل بسبب المؤثرات الاقتصادية والاجتماعية، لذلك ترى هذه المدرسة البحث عن أسباب الجريمة في المجتمع لا عند الفرد، فالفرد ليس خالق مجتمعه، وإنما هو صنع المجتمع.

ومن المعلوم أن هذه المدرسة قد قامت على أصول فكرية لبعض أقطاب علم الإجرام الأوروبيين من ذوي النزعة الاجتماعية، منهم تارد ودوركايم ولاكساني، وقد عارض هؤلاء آراء وأفكار لومبروزو وخالفوه فيما ارتآه من نسبة الإجرام إلى تكوين بيولوجي شاذ لدى المجرمين.

ظاهرة تستحق الدراسة

ولعل سؤالا آخر يطرح نفسه: ما الذي دفع شابا مثل رامي هاني فهيم، وهو ينتظر مستقبلا واعدا في مصر بسبب حظه الكبير من التعليم الأجنبي، وإتقانه اللغات الأجنبية، والطريق أمامه مفروش بالورد والرياحين، وليس محفوفا بالأشواك والعقبات، ليلهث وراء العمل في الخارج، ويترك الأمن والأمان في بلده؟

إنها ظاهرة تتطلب دراستها جهدا وصبرا وجمعا وتحليلا في الأكاديميات والجامعات والمراكز العلمية المتخصصة، وقد سبقه إلى العمل في أحد البنوك في أميركا جمال نجل الرئيس الأسبق حسني مبارك، عندما كان شابا يافعا ينتظر هو الآخر مستقبلا واعدا؟ فهو ابن رئيس الجمهورية، خاصة أنه لم يرد في بيانه الذي ألقاه، عبر قنوات التواصل، أنه حقق ثرواته الطائلة في الخارج أو جزءا منها من العمل في الخارج، والتي بلغ مقدارها 429 مليون دولار، وهي الثروة التي كانت مجمدة في بنوك سويسرا، بعد الإفراج عنها بموجب الحكم الصادر من محكمة الاتحاد الأوروبي والمدعي العام السويسري، أنه لا وجه لاستمرار فرض الحظر على أموال أسرة مبارك المودعة في البنوك السويسرية، لانتفاء شبهة غسل الأموال التي كانت السبب في فرض هذا الحظر، وهو البيان الذي هللت له الصحافة الصفراء وقنوات التواصل الاجتماعي المضادة لمصر، باعتباره بدءا لمعركة انتخابات رئاسة مصر التي سيخوضها جمال، ولا أملك إلا أن أثني على ذكاء جمال الذي أراد أن يسبق ألسنة الخلق التي سوف تتردد في مصر، عبر سؤال مشروع هو: من أين لك هذا، أنت وأسرتك؟ ليحرف الكلام عن موضعه، باعتبار هذا الحكم في زعم البيان نصراً لأسرته ورداً لكرامة والده وأسرته، وكأن ثورة 25 يناير التي أطاحت بالرئيس مبارك، قد قامت بسبب غسل الأموال، لا بسبب الفساد، وتزاوج المال بالسلطة الذي أدى إلى فقدان الشعب للعدل.

المجتمع الأميركي

إن الولايات المتحدة الأميركية الدولة العظمى، التي يدين لها أغلب دول العالم بالطاعة والولاء، قد نشأت منذ أقل من 3 قرون، دولة بلا تاريخ أو هوية، من المهاجرين المغامرين الباحثين عن الثروات، فاستباحوا وأبادوا الشعب الأصيل لهذه القارة الأميركية، فهو مجتمع غارق حتى أذينه في الماديات، بعيد كل البعد عن الروحانيات، وإن الرئيس الأميركي الأسبق ترومان، قد أمر بإلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما وناغازاكي، دون مبرر، وكانت هذه الحرب قد أوشكت على نهايتها سوى استعادة هيبة أميركا العسكرية بعد إغراق اليابانيين أسطولها بغارة جوية مباغتة في ميناء بيرل هاربر قبل دخولها الحرب، ولم يعبأ ترومان أو المجتمع الأميركي بالأعداد المهولة للضحايا المدنيين من اليابانيين الذين لقوا حتفهم، أو بالتشوهات الخلقية التي أصيب بها أعداد مهولة، الذين كان الموت أكثر رحمة بهم، بسبب الإشعاعات التي استقرت في أجسادهم لينقلوها الى أبنائهم.

وقد صدر في أميركا كتب عديدة منها كتابان أحدهما بعنوان «الجيتو والسجون»، والآخر بعنوان «التفرقة العنصرية»، لكاتبين هما دروبس وجورج بامفري، أبانا في كتابيهما أن هناك خرقا منظما لحقوق الإنسان، ضد ذوي البشرة غير البيضاء، وخلق أجواء من الخوف والذعر منهم، وتسامح السلطات مع كل أنواع التعذيب والعنف التي تستخدمها الشرطة ضدهم.

المستشار شفيق إمام