يستعدّ طلّاب الصفوف النهائية من المرحلتين الثانوية والجامعية للتخرّج من المدارس والكليات التي عاشوا فيها أكثر مما عاشوا في منازلهم، فتختلط المشاعر، وتعمّ الأفراح، ويبدأ القلق، وتدور محركات التحضير للحفلات المستحقة حيناً والمبالغ في أبّهتها في كثير من الأحيان.

ورغم أهمية الحدث بالنسبة إلى الطالب وذويه الذين ينتظرون بشغف انتقاله من مرحلة الى أخرى، يقودنا الواقع الى بعض المشاهدات والملاحظات التي قد تخدش جمال المشهد ولا نجد مفراً من الوقوف عليها والتأمل في مدلولاتها لارتباطها بمستقبل أجيالنا وتكوينهم التربوي والعلمي وربما استقرارهم النفسي والاجتماعي!

Ad

نبدأ من منظومة التعليم التي عجزت المؤسسات الرسمية عن الارتقاء بمستواها، والتي في بعض- أو كثير لا يهم!- المؤسسات التعليمية والأكاديمية الخاصة حادت بها البهرجة والفكر الدعائي عن الجوهر الأساسي للتعليم والتربية، فصارت المنافسة بين هذا النمط من المؤسسات قائمة على فخامة المبنى ورونق حفلات التخرج وكثرة الأنشطة اللا تعليمية وجنسية الطاقم التعليمي على قاعدة «عقدة الخواجة»! إلى أن استقر في الأذهان أن مستوى التعليم يقاس بمقدار ارتفاع الرسوم وزيادة المصاريف الدورية التي تتجاوز حدود المنطق وسقف المسموح به، ويأتي في السياق التكاليف الباهظة التي يجبر على تحملها ذوو التلاميذ والطلاب– حتى عند التخرج من رياض الأطفال- لشراء ثوب أو روب من هنا، أو للاستحصال على صورة تذكارية من هناك، أو لشراء بطاقة لاحتفالية مبهرة قد يتم تنظيمها في أجمل القاعات وأرقى الفنادق!

وننتقل الى مشاعر الأهل الذين يجاهدون في الحياة من أجل تأمين مستقبل أفضل لأولادهم و»الاستثمار» في تعليمهم طمعاً بالنتيجة المجزية، فمنذ تجاوز الطفل العتبة الأولى لمرحلة الروضة يبدأ المسار الذي لا رجعة فيه، والذي يسهل استغلال المضطرين اليه، ويبدأ معه اختلاط المشاعر بين فرح غامر وقلق حاضر وأمل في قادم باهر يخفف عبء الكادحين، ويبرر صبر المنتظرين، وفي السياق، كم هي اللحظات قاسية والمشاعر متضاربة عند اضطرار شاب لترك حضن والديه طمعاً في تحصيل جامعي لا يتوافر في بلده أو في بلد إقامة ذويه، أو أملاً في الانتقال الى جو أنسب والتمتع بعيشة أفضل والحصول على فرص مستقبلية أوفر!

لفلذات الأكباد الحصة الأهم من مقاصد هذه السطور، ولنبدأ من حال التعليم المتدهور يوماً بعد يوم وما سيؤول إليه مستقبل أجيالنا التي فقدت مع أسلوب «التعليم عن بعد» القليل الذي كانت تملكه من معارف ومهارات ومحفزات على التحصيل العلمي! وفي السياق يجدر بنا القلق على مخرجات التعليم العالي في ظل ثلاثية قاتلة قوامها: أولاً عدم وجود خطة جدّية لربط التخصصات الجامعية بحاجة السوق الفعلية، إضافة إلى عدم الالتفات إلى أهمية التوجيه في المراحل الثانوية لاختيار الاختصاص الذي يتناسب مع تكوين ومقدرات كل طالب، ناهيك عن واقع المنافسة الشرسة التي سيدخلها أبناؤنا حتماً في سوق العمل العالمية في عصر سمته الأساسية العولمة والانفتاح، وفي ظل ظروف اقتصادية صعبة ستضطر جميع سكان الأرض للبحث- عاجلاً أم آجلاً- عن فرص أفضل خارج بلادهم.

***

كثر الحديث عن أهمية إصلاح التعليم، ولعل الخطر أصبح داهماً أكثر مما نتصور! وكما أن مرض الضغط يسمّى «القاتل الصامت» لأن الذي يعانيه لا يشعر بآلام حادة تجبره– رغم إهماله أو جهله- على زيارة الطبيب ومراجعته دورياً، فإن معضلة التعليم بمسبباتها الحكومية وغير الحكومية من تجار علم جشعين وأهل غير آبهين وطلاب مستهترين... اقتربت بنا- دون أن نشعر ربما- إلى السقوط في الهاوية، وإذا ما كنّا مدركين خطورة الوضع وقصرنا أو تأخرنا بانتزاع الحل من فم الأسد أو من وكر الأفعى، فلن يفيدنا بعد ذلك أي ندم ولن ينفعنا أي حل ترقيعي، كما لن ترحمنا الأجيال القادمة مهما غرّتهم وألهتنا الدنيا بنعيم مؤقت سيزول حتماً.

وكي لا نقف عند حدود «الحلطمة» فإن الحل الناجع والسريع ينطلق من إعلان حالة طوارئ وطنية لإنقاذ التعليم، تبدأ وتنتهي بقرار جدّي وحاسم، وتمرّ بسلسلة تعاون ونقاشات تشارك فيها السلطات الدستورية والجهات المعنية من القطاعين العام والخاص، ناهيك عن مكونات المجتمع الأهلي المختصة. ولتبدأ المسيرة بخطوات متواضعة لكن ثابتة ودائمة دون أن نعمي أبصارنا أو نلهي بصائرنا ببهاء الطروحات ورونق الطموحات وجمالية الخطط المستوردة التي غالباً ما تكون إنشائية أو غير مطابقة للمواصفات المحلية.

* كاتب ومستشار قانوني.

د. بلال عقل الصنديد