كحقيبة السفر المتخمة بمحتوياتها والتي خرجت منها أحشاؤها من هنا وهناك، لملمت جزءا من فستان هنا وخرجت أكمام قميص من هناك، هكذا تخيلت نفسها في هذه اللحظة حيث تغلق فصلا طويلا مليئا بالأحداث والتفاصيل من حياتها العملية الممتدة، وكلما أغلقت جزءا منه أو مرحلة برزت أمامها أحداث يوم آخر، وفي زحمة الجري لإنهاء تفاصيل الإغلاق، كما يقول أهلنا في مصر الغالية «دخول الحمام مش زي خروجه»!!

على مكتبها رزمة ملفات وأوراق كلها مطلوب تعبئتها قبل الموعد المحدد لإنهاء هذا الفصل الطويل، وفي زواية المكتب تراصت الصناديق، كثير من الأوراق في زمن التواصل اللاورقي والكتب كثيرٌ منها، ورغم أنها حاولت أن تغربل ممتلكاتها الصغيرة التي تراكمت على نحو خمسة وعشرين عاما أو أكثر، فإنها اكتشفت أنها ما إن ترفع غرضاً من الصندوق أو تترك كتاباً على رف مكتبها المطل على تلك البحيرة الساحرة، إلا وتعود لتعيد وضعه في أحد الصناديق.

Ad

كررت وكما كانت تحدث أحداً وهي وحيدة تقف في منتصف المكتب «لكنها كلها تعني الكثير لي وتحمل ذكريات قريبة إلى قلبي»، وتطمئن نفسها ربما احتجتها في المستقبل القريب، ربما!! ألن أستمر في العمل؟ ألن يطلب مني بعضهم القيام باستشارة أو دراسة أو حضور اجتماع أو إلقاء محاضرة أو... أو...؟ تذكرت صديقتها التي أغلقت فصلاً طويلاً من العمل بالمؤسسات الدولية وتقاعدت مقنعة نفسها أنها ستودع أيام العمل الطويلة وتعود لتعيش الحياة وتنفذ كل أحلامها في تلك القائمة الطويلة التي حملتها في شنطتها لسنين.

وكلما ضاق صدرها من عدم التقدم في العمل، فتحت الدفتر الصغير ودونت فيه أمنية جديدة ستعمل على تحقيقها أول ما تنهي عملها وتلتحق بالعالم الآخر، لكنها في اليوم الأول استيقضت مذعورة في حالة تصور أنها تأخرت عن الاجتماع أو الدوام أو الدورة أو الندوة أو... أو... دقائق مضت قبل أن تتذكر أنها لم تعد موظفة عند أي أحد أو أي مؤسسة أو منظمة. شهران مضيا وكأنهما سنون وهي تقضي معظم لحظات أيامها في فراشها إما نائمة وإما محملقة في سقف غرفت نومها التي بدأت للمرة الأولى تلاحظ تفاصيل فيها لم تكن تعرفها.

أخذها زوجها وابنها إلى الطبيب النفساني وجاء تشخيصه «اكتئاب حاد» يحدث لمعظم المتقاعدين، خصوصاً أولئك المدمنين أعمالهم، والذين لم يكونوا موظفين، بل تصوروا أنهم أصحاب قضية يدافعون تارة عن حق المرأة في العمل، ومشاركتها في صناعة القرار، أو حقوق الطفل أو حقوق العمال، وهذه فئة أخرى من البشر بدأت تنقرض أو هم وأدوها، ومحاربة الفقر والعوز ومساعدة اللاجئين... طويلة هي القائمة وقليل هو الإنجاز رغم كل المتوافر والمتاح من الدعم المالي وأحيانا قليلة الدعم المعنوي!

عادت هي لتحملق في الصناديق ومكتبها والعصافير على تلك الشجرة العجوز خلف نافذة مكتبها واللوحة التي اختارتها عندما سلموها هذا المكتب بجدرانه العارية، تلك البيضاء الباردة، قالوا لها هناك لوحات في القبو، نعم في قبو المؤسسة كمية من اللوحات وغيرها من الهدايا من كثير من الدول والحكومات، في تلك اللحظة لم تتخيل أن للوحات والتحف عُمراً كما البشر، وحملت أربع لوحات كبيرة، أو طلبت المساعدة في إرسالها إلى مكتبها وكأنها قد أحيت تلك اللوحات الفنية من موت حتمي في مقبرة تلك المنظمة، أقصد قبوها!

أكثر ما أتعبها في تلك الأيام هو نقاء بعض الزملاء حتى البكاء وهم يودعونها، وربما ما أتعبها أيضا تجاهل الكثيرين وهم في ذلك بين مزيج من اللا مبالاة بمن يأتي ومن يرحل، فهم في معظمهم مهتمون بمنصبهم ومراكزهم ومرتباتهم آخر الشهر وكفى، وآخرون كانوا سعداء برحيل امرأة أخرى «لوثت» أجواءهم الذكورية التامة، وخصوصاً أنها هي ملونة وليست امرأة منهم ومن البشر حاملي الدرجة الأولى أو الخمس نجوم، ألم نكتشف ذلك ونحن نتابع بخوف وقلق أحداث أوكرانيا؟ ألم نكتشف أن دروسهم في الديموقراطية وحقوق الإنسان والمساواة ما هي إلا للتصدير فقط وللتسويق لدى أولئك البشر ناقصي العقل والفهم ومختلفي اللون والعرق والجنس؟

إنه يوم آخر بأحداث جديدة جداً.

* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.

د. خولة مطر