لا يزال التوتر المتصاعد بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وأجهزته الأمنية والجيش من أبرز المخاوف المحيطة بالحرب الروسية الكارثية في أوكرانيا، فقد بدأت هذه الحرب حين عقد بوتين اجتماعاً متلفزاً لمجلس الأمن الروسي، حيث أهان سيرغي ناريشكين، رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية، بسبب قلة حماسه تجاه الغزو المرتقب، وبعد مرور أسبوعين وسقوط خسائر كبرى في صفوف القوات الروسية ومواجهة مقاومة أوكرانية غير متوقعة، وضع بوتين جنرالَين من جهاز الأمن الفدرالي الروسي تحت الإقامة الجبرية وأطلق تحقيقاً بشأن تراجع الأداء الاستخباري وسوء استعمال الأموال المخصصة لزرع جماعات موالية للكرملين في أوكرانيا، حتى أنه أجبر نائب قائد الحرس الوطني على الاستقالة بسبب تحقيق جنائي على ما يبدو، وفي بداية أبريل، نُقِل جنرال كان في الإقامة الجبرية إلى سجن "ليفورتوفو".

ثم جاء دور الجيش، وطوال أسبوعَين تقريباً من شهر مارس، اختفى وزير الدفاع سيرغي شويغو عن الأنظار، علماً أنه يُعتبر الوجه العلني للحرب ومن أقرب المسؤولين إلى بوتين، وانتشرت في الوقت نفسه شائعات حول استياء الرئيس الروسي من مسار الغزو، وحين ظهر شويغو مجدداً في مقطع فيديو خاص باجتماع مجلس الأمن الروسي ثم خلال مؤتمر آخر في وزارة الدفاع، بدا متجهماً ومعزولاً، وفي نهاية مارس، ذكرت قوات الاستخبارات الأميركية أن وزارة الدفاع الروسية لم تقدّم معلومات واضحة عن الحرب إلى بوتين خوفاً من تحمّل عواقب إضافية على الأرجح، وفي 9 أبريل، أعاد بوتين تنظيم سلسلة القيادة العسكرية، فعيّن الجنرال ألكسندر دفورنيكوف لإدارة العمليات في أوكرانيا.

Ad

للوهلة الأولى، تشير هذه التطورات إلى حصول تغيير بارز، فخلال السنوات التي سبقت الحرب، كانت مجموعة "سيلوفيكي" (الاسم الذي تُعرَف به النخبة الأمنية في روسيا) من أبرز مراكز القوة في نظام بوتين، فلطالما اتكل الرئيس على الأجهزة الأمنية لتطبيق سياساته ومساعدته في التمسك بسلطته، ربما طغت وزارة الدفاع بقيادة شويغو على "السيلوفيكي" في السنوات الأخيرة، لكن لم يسبق أن بدا بوتين على خلاف مع هذين الجهازَين الأمنيَين ومع الجيش بقدر ما يحصل اليوم، ونظراً إلى تصاعد حملة القمع الوحشية التي يقودها بوتين ضد هؤلاء الرجال وزيادة الوعي في موسكو حول سوء مسار الحرب، يتساءل بعض المراقبين الآن إلى متى سيتحمّل هؤلاء أخطاءه الكارثية.

لكن تغفل هذه الأسئلة عن العلاقة التاريخية بين قوى الأمن والدولة الروسية والطريقة التي اعتمدها بوتين لبناء سلطته، إذ تبقى التطورات الأخيرة لافتة، لكنها لا تشير إلى انهيار النظام القائم، ورغم الاضطرابات الراهنة، لا يزال احتمال أن يتحرك كبار أعضاء النخبة الأمنية أو العسكرية ضد بوتين ضئيلاً.

حين انهار الاتحاد السوفياتي، أُعيد تشكيل استخباراته على شكل جهاز الأمن الفدرالي، واحتل الكيان الجديد المقر نفسه في "لوبيانكا" وتابع تطبيق جزء كبير من الممارسات نفسها.

حرص بوتين، منذ وصوله إلى السلطة، على توسيع صلاحيات النخبة الأمنية، فمنح جهاز الأمن الفدرالي قدرات واسعة لمراقبة المعارضين داخل صفوف الجيش، ومنذ بداية عام 2000، صادق بوتين على سلسلة جديدة من التنظيمات لتوسيع تدخّل جهاز الأمن الفدرالي في عمليات مكافحة التجسس العسكري، وحصل هذا الجهاز على صلاحيات لإجراء التحقيقات حول "التشكيلات المسلّحة غير الشرعية، والجماعات الإجرامية، والأفراد، والجمعيات العامة" التي تحاول "تغيير النظام السياسي في الاتحاد الروسي بطريقة عنيفة أو الاستيلاء على السلطة والاحتفاظ بها عن طريق العنف"، وفي عام 2004، ارتفعت رتبة وحدة مكافحة التجسس العسكري في جهاز الأمن الفدرالي وتحوّلت إلى قسم شامل من الأجهزة الأمنية، وسرعان ما أصبحت أكبر شعبة في الجهاز الأمني وفيها عناصر ينشطون في الجيش الروسي.

نتيجة هذه الصلاحيات، أصبح عناصر جهاز الأمن الفدرالي منتشرين في الجيش الروسي اليوم، حيث تتعدد القوانين التي تُحدد عدد العناصر في كل وحدة أو منشأة عسكرية، فوفق سياسة جهاز الأمن الفدرالي مثلاً، يجب أن تخضع قاعدة جوية صغيرة تابعة للحرس الوطني في "إيرمولينو"، في منطقة "كالوغا" (تشمل هذه القاعدة ست طائرات فقط ونحو 12 مروحية)، لإشراف رئيس جهاز الأمن الفدرالي المحلي.

خلال الحرب في أوكرانيا، يقضي دور جهاز الأمن الفدرالي رسمياً بمنع مهاجمة القوات الروسية أو تخريب عملياتها بطريقة مباغتة، ويتولى عناصر هذا الجهاز أيضاً فرض السيطرة السياسية على الأراضي المحتلة، بما في ذلك المدن والمناطق التي استولى عليها الروس، لكنهم يراقبون في الوقت نفسه تصرفات الجنود.

في ظل هذه المراقبة المتواصلة، لم ينتج الجيش الروسي نوع الضباط القادر على قيادة ثورة ناجحة، لكن ماذا عن رجال جهاز الأمن الفدرالي أنفسهم؟ سبق أن أثبت نظام بوتين أن الاستخبارات السوفياتية أنتجت عدداً من أقوى القادة المحليين منذ عهد ستالين، ولهذا السبب، قد يشتق أكبر تهديد على بوتين من الوكالة التي حرص على تقوية صلاحياتها على مر السنين: الضباط في "لوبيانكا".

مع ذلك من الأفضل أن يراجع كل من يتوقع تمرّد الأجهزة الأمنية ضد بوتين السجل الهزيل لحركات المعارضة داخل جهاز الأمن الفدرالي، فلطالما كانت الأجهزة الأمنية الروسية تميل إلى الفساد، لكنها لم تبرع في بناء قواعد فاعلة وشبكات محسوبيات لحماية سلطتها، ونظراً إلى طريقة بناء جهاز الأمن الفدرالي، يميل الضباط الفرديون إلى إظهار الولاء لأسيادهم بدل كبار الضباط داخل الأجهزة الأمنية. إذا خسر جنرال من جهاز الأمن الفدرالي منصبه، فلن يتمكن من متابعة الاتكال على ولاء مرؤوسيه السابقين.

على صعيد آخر، يدرك أعضاء جهاز الأمن الفدرالي أنهم قد يقعون ضحية حملات بوتين القمعية بقدر أي شخص آخر، وفي الوقت الراهن، يقبع عشرات الضباط في السجن بتهمة الفساد والخيانة (غالباً ما تشمل القضية تُهَماً بالتجسس لصالح الولايات المتحدة). قد تكون التُهَم حقيقية أحياناً، لكن يبدو أن حوافز أخرى هي التي تُحدد الجهات المستهدفة، ففي معظم الأوقات، يتولى عناصر الأمن الداخلي في جهاز الأمن الفدرالي اعتقال المتّهمين. نتيجة هذه الممارسات، سادت ثقافة من انعدام الثقة داخل جهاز الأمن الفدرالي: لا يثق الضباط متوسطو الرتبة بالجنرالات، ولا يثق الجنرالات بأتباعهم. لا يزال الأعضاء الأكبر سناً يتذكرون أن الانقلاب الذي قاده رئيس الاستخبارات السوفياتية، فلاديمير كريوتشكوف، في عام 1991 فشل لأن الجنود فضّلوا الانتظار وعدم التحرك بدل المشاركة في خطته.

في المقابل، لا يتذكر الجيل الحالي من ضباط جهاز الأمن الفدرالي (وهم رجال في الثلاثينيات والأربعينيات من عمرهم) أي رئيس غير بوتين، وقد بنوا مسيرتهم تحت إشراف مدير واحد: إنه ألكسندر بورتنيكوف الذي يقود الوكالة منذ عام 2007، وتختلف هذه المجموعة بقوة عن الجيل السابق الذي كان ناشطاً خلال التسعينيات، حين اضطر عناصر جهاز الأمن الفدرالي للتنقل بين مختلف الجماعات السياسية التي تتنافس على السلطة. اليوم، لا يخدم ضباط جهاز الأمن الفدرالي إلا الرئيس ويكتفون بتنفيذ أوامره، وتقضي مهمتهم الأساسية بالتخلص من أي مصادر محتملة للمعارضة أو الانشقاق بأكثر الطرق وحشية ومن دون طرح أي سؤال، حتى أن مكانتهم المرموقة في المجتمع الروسي جعلتهم أكثر ولاءً للنظام.

لطالما اتكل بوتين على دعم جيشه وأجهزته الأمنية إذاً، لكن تثبت الحرب في أوكرانيا على ما يبدو أن استمرار هذا الدعم له حدود معينة، ويشير التوتر الواضح والمتزايد بين الرئيس وكبار الأعضاء في نخبته الأمنية إلى خوف بوتين من التحديات المحتملة على عهده أكثر من أي وقت مضى. من ناحية أخرى، قد يثبت هذا الخلاف أن جزءاً من أوساطه الداخلية على الأقل يشعر بالاستياء من المسار الذي أطلقه، وبما أن بوتين معتاد على معالجة المشاكل (بما في ذلك سوء الأداء الاستخباري والعسكري في أوكرانيا) عبر لوم مجموعة "سيلوفيكي"، قد لا تتشجع هذه النخبة الأمنية على منحه معلومات دقيقة حول حقيقة ما يحصل، فهم لا يريدون أيضاً أن يُعرّضوا أنفسهم للانتقاد أو الهجوم.

يصعب أن تطلق مجموعة "سيلوفيكي" (الأجهزة الأمنية والجيش معاً) انقلاباً خاصاً بها أو تقوده بنفسها نظراً إلى افتقارها إلى الخبرة العسكرية والدعم القوي، ولن يتغير مسارها على الأرجح حتى لو انقلب الرأي العام في روسيا ضد بوتين بطريقة جذرية، فالنخبة الأمنية تهتم في المقام الأول بحماية مصالحها الخاصة، ولا يمكن أن تخسر ثقتها بالنظام إلا في حالة واحدة على الأقل: إذا تصاعدت الاضطرابات الاقتصادية في روسيا لدرجة أن يختلف حكام المناطق مع بوتين، وإذا بدأ النظام الاقتصادي الذي حافظ على دولته الأمنية لأكثر من عشرين سنة ينهار، فقد تستنتج نخبة "سيلوفيكي" أن الكرملين بدأ يخسر سيطرته على البلد وأن مستقبلها أصبح مُهدداً، وفي هذه الحالة، قد يقف المسؤولون الأمنيون جانباً ويسمحون بتنفيذ الانقلاب أو ربما يسهّلوا حصوله.

* أندريه سولداتوف وإيرينا بوروغان