بينما الخطاب على أنه شهر صيام وخشوع وطاعة وتعبّد، تبدو الحال اليومية للبشر كعادتهم في كل رمضان بعيدة عن كل هذه الصفات والتصرفات، فكثيرون يسهرون الليل مسمرين أمام التلفاز ببطون مصابة بالتخمة من كثرة الطعام الذي تم حشوه في الأمعاء، وكثير غيره مصيره مكبات الزبالة، وصائمون آخرون يتأخرون عن مواعيد عملهم أو ينهونها سريعاً، وتكثر الألفاظ البذيئة في الشوارع المكتظة في حين تسرع العربات مخالفة كل تعليمات السلامة والأمن وحتى الأخلاق، حيث يردد الجميع عند سؤاله «اللهم إني صائم».

عندما نهر ذاك الموظف الزوار القادمين في تلك الدائرة الحيوية والذين اصطفوا منذ الصباح الأول، وطالبه الجميع باحترام القادمين لقضاء حاجاتهم عاد ليردد تلك الحجة الباهتة «اللهم إني صائم» حتى تمتم الحضور بكلمات غير واضحة ولكنها حتما تعني، وهل يعني الصيام أن تقوم بالصراخ في وجه البشر الذين لك ثواب كبير في تقديم الخدمات لهم؟

Ad

عندما اصطف الكثيرون أمام الفرن لأخذ حصتهم من الخبز أو العيش الساخن الذي أصبح عملة في بورصة القمح بعد حرب أوكرانيا، حدثت مشاجرة بين شابين كادت تتحول من التلاسن إلى الضرب باليد والركل بالرجل وسلسلة لا تتوقف من السباب والشتائم البغيضة، وهم يعيدون تكرار «اللهم إني صائم»!

تلتقي الأسر والعائلات حول موائد الإفطار أو السحور وذلك أمر جميل ومحبب، إلا إذا شاب الحديث كثير من النيل من أشخاص آخرين وعدم الإحساس بمن هم أقل قدرة على إطعام أطفالهم وعوائلهم، أتذكر ونحن صغار كان الدافع للصيام، حسب قول أهلنا ومدرساتنا الفاضلات، هو الإحساس بالآخر، أي الأقل قدرة على توفير احتياجات أسرهم من المطعم والملبس والإحساس بالجائعين، ليس من المسلمين فقط بل من كل البشر، كم جميل أن تكون الدروس والتعاليم إنسانية وغير مرتبطة بالتهديد والوعيد وبئس المصير وجهنم الحمراء!!

تعرف أن الصيام هو من أجل الإحساس بالآخر لا من أجل التفاخر والإكثار من الأكل الذي يسهم الإعلام وخصوصاً التلفاز في الإعلانات المليئة بالطعام والشراب، وما بينهما تبرز تلك الصور من التعاليم الأولى وأنت تستمع لها، لتلك الشابة المكافحة العاملة في إحدى الفنادق، وهي تقول طلبت من ابني بالأمس أن يذهب إلى الخضار لإحضار خسة واحدة وخيارة واحدة وأربع حبات من الطماطم لأعمل صحن فتوش على مائدة إفطار عائلتي المكونة من زوجين وثلاثة أطفال، هي أيضا تغص عندما تكون الوجبة التي يقدمها هذا الفندق ذو النجوم الخمسة لهم أي لموظفيه، وأسألها «لماذا؟» تقول «لأنهم يطعمونني لحمة لم أعد أستطيع أن أحضرها لأطفالي حتى في شهر الصيام».

في الماضي كانت موائد الإفطار غنية لكنها ليست مسرفة، وليالي رمضان مليئة بالفرح ولكن ليس بالمسلسلات والإعلانات المليئة بالبذخ والإسراف وسوء الأخلاق والعنف اللفظي والجسدي. يقول البعض كما تحولت كل المناسبات الدينية إلى مجال للتسويق وترويج البضائع والمظاهر وفرغت من محتوياتها الأخلاقية والإنسانية والمفاهيمية، هكذا أصبح رمضان مشابهاً للكرنفالات الاحتفالية المليئة بما يغري على الاستهلاك أكثر وأكثر وأكثر.

إعلانات هنا ومسلسلات هناك وطعام كثير في واجهات الدكاكين وكميات كبيرة من الشراب والعصائر وأرصفة مكتظة بما لذّ وطاب يصطف أمامها الكثيرون قبل الإفطار بقليل، ويقلبون البضائع باحثين عن الأسعار ثم ما يلبثون أن يرجعوها إلى مكانها، فالأسعار نار حامية أشد سطوة من نار جهنم التي هي موضوع خطب كثير من رجال الدين الملتحين ذوي الوجوه المكفهرة والغاضبة حتى في هذا الشهر الفضيل الرحيم!

في كل رمضان تزداد المشاهد التي ارتبطت به من كثرة التوجهات المادية والابتعاد عن عمق الفهم للدين الأصلي بل ما هو سوى قشور تنطق بها أفواه شبه جهلة أو أصحاب عقول مغلقة والباحثين عن الطريق السريع للوصول إلى الله والجنة، رغم أن طريقه أكثر رحمة وأبسط من كل هذا الكم من النفاق والجهل الديني، وتكرار الأسئلة البلهاء مثل «هل تنظيف الأسنان يفطر الصائم؟»، رغم أنهم يعرفون أن دينهم أوصاهم بالنظافة، أفليس الوضوء خمس مرات باليوم شكل منه؟ ربما هم ضحايا لقراءات وتفسيرات تنبع من أفواه جهلة تزاحموا في تمثيل أدوار على محطات التلفزة تشبه في كلها أو بعضها ما يدور في التمثيليات الممجوجة الكثيرة البغض والعنف، في حين طريق الله والجنة أكثر بساطة وحبا ورحمة.

* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية

د. خولة مطر