زعيم الحارة الدمشقية الأصيل، "الزكرت والقبضاي"... طار مغرداً في سماء حلمه طفلاً صغيراً، وسط صراع مع مجتمع أراد قص جناحيه، فصنع لنفسه جناحين من ذهب وصل بهما إلى المجد... إنه رفيق سبيعي (أبوصياح)، رجل المواقف الثابت، مؤسس الأغنية الشعبية الناقدة، ملك المونولوج.

رنين حنجرته بلهجة الحارة الشامية وصوت عصاه وأقدامه على المسرح الخشبي حفرا في ذاكرة الفن اسماً لشخصية متفردة، غِناها في مبادئها، وعظمتها في أدوارها، عاصر النخبة تلميذاً نجيباً ليصبح معلماً محترفاً، يتنقل بقلبه وعقله معاً بين المسرح والتلفاز والسينما والغناء راسماً خطوط الشهرة عبر أجيال متتالية ومساهماً في صنع أعمدة البيت الدرامي السوري، تاركاً آلاف الأعمال في خزينة التراث العربي، وفيما يلي تفاصيل الحلقة الأولى:

Ad

ولد رفيق سبيعي في الأول من فبراير 1930، في حي البزورية بدمشق القديمة، المكان القريب من السوق الشهير"البزورية" وقصر العظم والجامع الأموي، في فترة الانتداب الفرنسي، في مجتمع يرفض الفن ويعتبر العمل به أمرا اجتماعيا معيبا، مثله مثل الرقص والغناء، فبدأ رفيق محاولاته وتجاوز كل تلك العقبات للوصول إلى حلمه وشغفه، حتى لو كان الأمر تحت اسم آخر بدأ به، وهو "ر فيق سليمان".

حمّلت النشأة في عائلة محافظة عاتق الطفل الصغير تعبا وجهدا كبيرين، لكنها لم تمنعه من اللحاق بأحلامه في كل شيء حوله، بدأت علامات محبته للفن بالظهور في وقت مبكر من حياته، وأولاها الأثر الكبير الذي تركته الموسيقى في نفسه، فقد أحب الغناء وكان مستمعا شديد الانتباه لأغاني الأسطوانات القديمة التي كانت موجودة في بيته، والتي حفزته على أداء فروضه المدرسية، فلم يكن يكتب وظائف المدرسة إلا إذا أدارت والدته الأسطوانة على آلة "الفونوغراف"، مستمتعا بأصوات كوكب الشرق أم كلثوم، والموسيقار محمد عبدالوهاب، وبمجرد توقفها كان يتوقف عن الكتابة.

ويتذكر سبيعي في تلك المرحلة فيلما للفنانة والمطربة المصرية ليلى مراد مع محمد عبدالوهاب، اسمه "يحيا الحب" غنى فيه الثنائي معا أغنية "يا دي النعيم اللي أنت فيه"، وكان في الفيلم أغنية رومانسية جدا "يا ما أرق النسيم"، كان كلما سمعها تذكر طفولته وعاد سنين طويلة جدا إلى الوراء، حيث كان يقول لوالدته كلما توقفت الأسطوانة عن العمل أثناء كتابة دروسه "دقي"، وكثيراً ما كانت تستدعيه والدته ليغني لنساء الجيران، حين يجتمعن في الدار مستمتعات بجمال صوته.

رفيق ابن عائلة فقيرة جدا، كان والده يعمل عند أولاد عمه في شركة شحن بضائع بالقطار ويصطحب رفيق معه إلى محطة الحجاز، حيث كانت مهمته جمع البضائع من سوق "مدحت باشا" والبزورية، وكانت هذه البضائع تشحن إلى فلسطين. عاش الطفل رفيق وقتها الجو الذي أحبه في محطة الحجاز، فوالده كان يتركه في القهوة حيث يجلس حملة البضائع الذين يقدمون له كعكاً وشاياً وبالمقابل كان يغني لهم، فالغناء بالنسبة لذاك الطفل رغم كل الظروف الصعبة كان نوعا من الغذاء الروحي.

بدأ سبيعي في عمر ثماني سنوات، يحضر الموالد النبوية برفقة أخيه، فأخوه الأكبر كان يحضر الأذكار في المساجد، ويأخذه معه يوم الجمعة ليقف بين المنشدين، وكثيراً ما كان ينسل راكضاً باتجاه المنشدين، مغنياً معهم التواشيح والأناشيد الدينية، وكان الشيخ يحب أداءه، وفي هذه المرحلة بعمر التاسعة شاهد رفيق أوّل فيلم في حياته. عندما اصطحبه خاله لمشاهدة الفيلم المصري "المعلم بحبح" للراحل فوزي الجزايرلي، حيث كانت السينما في بداياتها.

الخطابة ضد الاحتلال الفرنسي في سن الثامنة

عندما بُدئ العمل لإخراج المحتل الفرنسي من سورية كان عمره 8 سنوات وكانت الحركات المقاومة قد بدأت، شارك سبيعي في الإضرابات وفي الخطابات مع التلاميذ وفي المظاهرات التي تنشأ من تجمع المدارس، حيث كات صديقه المحامي بديع السيوفي، يكتب له الخطابات التي يلقيها رفيق، وعند الذهاب إلى المدرسة كانوا عوضا عن الدخول للصف يغلقون المدرسة وباقي المدارس ليخرجوا في مظاهرات ضد المحتل، كان سبيعي جريئا جدا لدرجة أنه ضرب عسكرياً فرنسياً، فاقتادوه إلى المخفر وحلقوا شعره لكنهم أخرجوه لأن عمره لا يتجاوز سبع سنوات.

عندما بلغ الخامسة عشرة تم جلاء المحتل عن سورية، يتذكر رفيق حوادث كثيرة قبل الجلاء، ومنها قصف البرلمان السوري بالمدافع حيث كانت "المشيرية" كما سماها وهي مركز للقيادة الفرنسية مواجهة للبرلمان وتم القصف من هذا المركز على بعد أمتار قليلة. ركض برفقة أصدقائه ليرى ما حصل للبرلمان، حيث ارتقى عدد كبير من الشهداء ووقع عدد من الجرحى ومنهم والد صديقه وزميله الممثل سعيد عبد السلام، الذي كان بمهمة حراسة للبرلمان.

وضمن الحوادث التي علقت في ذاكرته عندما أنزل "بهجت بعيرة" العلم الفرنسي من فوق البرلمان ورفع العلم السوري، مبينا كم كان الإيمان بالوطن عظيما في تلك الفترة، وأن فكرة حكم الغريب للوطن غير مقبولة نهائيا، أما أغنية "يا ظلام السجن خيم" فكانت من أكثر الأناشيد التي رددوها، ويتذكر في أيام الجلاء الأولى كيف كان صوت سلامة الأغواني يصدح في الساحات.

الحكواتي أبو أحمد

فرضت البيئة التي تربى فيها الفنان إضافة إلى صعوباتها حبا في داخله لن ينساه، لاسيما مع نشأته في حي البزورية الشعبي، الذي يتوسط قلب دمشق القديمة، ويقع داخل سورها، طبعت تلك الأيام في ذاكرة سبيعي مشاهد لم ينسها أبداً، فهو يتذكر حينما كان يركب العربة (الكاميون) من سوق مدحت باشا إلى محطة الحجاز، حيث اعتاد مجالسة (العتالين) في المحطة، ليتعرف على عوالمهم وأحاديثهم، وينشد لهم من أعماق قلبه، فاكتسب الطفل النجيب من خلال أحاديثهم تفاصيل اللهجة الشامية ومصطلحاتها. كان يعبر الجامع الأموي ذهاباً وإياباً فبيته في أسفل الحي، يتوقف أمام مقهى النوفرة المعروف، متعلقا بالشبك الحديدي الخارجي متابعا بشغف الطفل قصص الحكواتي «أبو أحمد المنعش» التي نالت إعجابه وانتباهه، محاولاً التقاط طريقته المتميزة والفريدة، معتبرا ذاك الحكواتي هو الأول في فن التمثيل، فكان محفزا جديرا بمنح سبيعي رغبة شديدة في التحرر والانطلاق، ودافعاً له لأن يكبر قبل الأوان.

تنقل رفيق في تلك المرحلة بين عدد من المهن التي كانت بحكم البيئة والجو الاجتماعي متواضعة بل أقرب إلى البائسة، وفشل فيها جميعا، حتى إنه عمل بائعا للمرطبات في صالة سينما، لكي يتسنى له رؤية الأفلام التي كانت تعرض.

فمن يكون الحكواتي "أبو أحمد المنعش" الذي اعتبره سبيعي أستاذه الأول في التمثيل؟ كان المنعش بائع سكاكر في باب الجابية قرب الحمام الجديد ويعمل حكواتيا كهواية له، ويعرف أبو أحمد القراءة والكتابة ويتكلم باللغة الدارجة عن الملك الظاهر، يمشي من أول القهوة حتى آخرها ويمثل ما يتكلم به عن ظهر قلب، يقلد حركات الأبطال ويقلب وجهه، يهجم ويضرب ويقفز مع أنه كبير في السن يلبس لباساً عربياً ويضع طربوشاً على رأسه وحول الطربوش لفة، وكان هذا لباس الناس المقدرين أي المحترمين في ذلك الوقت، كان يمثل دور البطل بين رواد المقهى بين المغرب والعشاء كوقت مناسب للناس حيث يمضون الوقت مع الحكواتي بانتظار صلاة العشاء وكان اسم المقهى "النوفرة".

بلغ الطفل رفيق الحادية عشرة من عمره وعلى الرغم من نشأته في بيئة متدينة وظروف اجتماعية جعلت عائلته تحاول مرارا اختيار طريق له بعيدا عما كان يحلم به، بدأ بالبحث عن الأماكن التي تقام فيها الأعراس والحفلات الغنائية فغنى لكارم محمود وعبدالعزيز محمود وعبد الغني السيد، ومنولوجات شكوكو وإسماعيل ياسين، لافتا أنظار الحضور الذين أعجبوا بصوته، فزاد تعلقه بطموحه الموسيقي ودفعه ذلك إلى مزيد من المحاولات مرارا وتكرارا محاولا التقدم للوصول إلى حلمه، صدامه مع الواقع الاجتماعي المحافظ وقتها الذي عاب العمل في الفن ونبذ الفنان وحرم الغناء لدرجة أن من يعمل في التمثيل يطلق عليه "المشخصاتي"، تسبب بطرده خارج المنزل واختبائه داخل الخان أو النوم عند الفران.

أنهى الطفل رفيق دراسته في المرحلة الابتدائية لكنه لم يكمل تعليمه بعدها، وباشر العمل خياطاً ليساعد والده في تحمل أعباء ومصاريف المنزل، فقضى ثلاث سنوات في العمل بمجال الخياطة ليكتشف فشله في هذه المهنة واتجه للمشاركة في نوادي الكشافة حيث برزت مواهبه في الغناء والعزف والتمثيل.

الأهل والفن

يتحدث رفيق سبيعي في حوار أجراه معه الصحفي الأستاذ جهاد أيوب عن محاولاته إقناع والديه بالفن، قائلا: حتى آخر لحظة لم يقتنعوا، مرة كنت في منزل العائلة مع أهلي أشاهد التلفزيون رفقة بوالدتي، وللمصادفة عرضت أغنية لي على الشاشة، حاولت مراقبتها ومراقبة انفعالاتها، وسألتها: كيف ترين مهنتي الآن، فقالت لي: يعني لا بأس، لكنني مصرة على أنك لو قمت بأي عمل آخر، لكان بالتأكيد أفضل. وماتت وهي مقتنعة بهذه الفكرة، وهذا طبعاً يعود لبيئتها وتربيتها. ويرى سبيعي أن أكثر المحطات المؤثرة في حياته عندما اقترب أهله من الاقتناع بأن ما يقوم به هو عمل مشرف، قائلا: «أذكر أنني عندما أتيت إلى والدتي عام 1960 وقلت لها: أنا ذاهب إلى مصر، فسألتني: "من أين لك ثمن تذكرة الطائرة"، فأجبتها: إنني موفد من قبل الحكومة التي تتكفل بمصاريفي، فدهشت، وأذكر أن تلك كانت هي المرة الوحيدة التي ودعتني أمي في المطار، فوقتها فقط عرفت أن ما أقوم به له أهميته لكون الحكومة تبنتني، لقد ظلمني المجتمع قبل ظلم أهلي، فأهلي جزء من هذا المجتمع، عندما كان والدي يمر في الحارة كان الناس يقولون له: "روح شوف ابنك شو عم يعمل، عامل كشكش" ليقول لي بعد عودته: "وطيتلي راسي".

ويضيف سبيعي فيما يتعلق بتعامل والده الذي كان يلاحقه ليعرف أين يعمل، قائلا: مرة كنت أعمل كملقن مع الفنان عبد اللطيف فتحي، ولم أكن أظهر على الخشبة، وهناك من أخبر أبي بذلك، فلحق بي وسحبني من يدي أمام الفرقة كلها وقال لي: "شو... رح تعملي كشكش" وكان يطلق على كل من له علاقة بالفن "كشكش"، ولكن أبي كان مرنا أكثر من أمي، فعندما تجاوزت الثلاثين، وبدأت أعمل في التلفزيون، وأخذت أبي إلى السينما لأول مرة وأصبح يراني على التلفزيون تقبلني قليلاً.

طريقة إعلان الأغاني الجديدة في الأربعينيات

كان سبيعي يذهب في صغره إلى منطقة "السنجقدار" حيث يوجد محلان لبيع الأسطوانات محل الصبان ومحل الصناديقي، هذان المحلان يروجان للأغاني الجديدة عبر تكرار إذاعتها بالمكبرات، باعتبارها الطريقة الوحيدة للإعلان في الأربعينيات، فيقف الناس بالقرب منهما ليستمعوا لهذه الأغاني، أما سبيعي فقد استهوته بشكل خاص اسطوانات عمر الزّعني وسلامة الأغواني لما في أغانيهما من قصص ومونولوجات وحكايا النقد الاجتماعي والسياسي.

بداية الحلم

حاول رفيق سبيعي حضور العروض المتاحة للفرق العربية التي تزور دمشق وخاصة المصرية واللبنانية، التي يتنوع ما تقدمه من برامج في الغناء والاستعراض والاسكيتشات الكوميدية. حتى عام 1948، تعرف سبيعي من خلال صديق لأخيه الأكبر على ممثلين كوميديين "جميل خربوطلي" و"أبو رمزي" يحضران إلى دمشق إلى مقهى على ضفة نهر بردى حيث يتحول هذا المقهى في العيد إلى مسرح، ليقدما فصولاً كوميدية مرتجلة، وطلب منهما تشغيله، وبالفعل علمه الرجلان كيف يقف على المسرح، وماذا يقول، وفي نفس العام عمل معهما، محصلاً أول أجر له وهو ليرة سورية واحدة في اليوم.

تجول سبيعي بين الريف والمدينة في العديد من المحافظات في رحلات عمل لم تكن مجدية مالياً، لينضم بعدها إلى فرقة الفنان اللبناني علي العريس، حيث بدأ العمل فيها ملقنا من داخل الكمبوشة (حجرة الملقن على أرض المسرح) وهناك تعلم من خلال مراقبة الممثلين أثناء تأدية أدوارهم أصول الفن، وتعرف بعد ذلك على محمد علي عبدو الذي كان فناناً معروفاً وصاحب فرقة مسرحية اسمها "الكواكب"، التي استمرت لعامين فقط تجولت خلالهما في عدد من المدن الرئيسية في بلاد الشام وضمت وقتها خمس ممثلات وعشرة ممثلين ومنهم الممثل والمخرج المسرحي والتلفزيوني السوري صبري عياد أحد أهم رواد الممثلين المحترفين في حركة المسرح السوري في القرن العشرين ورغبة من الفنانين أنفسهم في إيجاد اتحاد لهم أسسوا "فرقة اتحاد الفنانين" التي لم تستمر سوى عام واحد.

قدم سبيعي مع فرقة الكواكب أول عمل مسرحي له (بياع نسوان) في حلب، بدأت الأمور تزداد صعوبة بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة التي أحاطت به، ومن أكثر صور معاناته أنه سافر ضمن فرقة إلى اللاذقية لتقديم أحد العروض، ولكنهم فشلوا وأفلسوا فاضطر إلى رهن بطاقته الشخصية مع سائق الباص لإعادته إلى دمشق، على أن يدفع له الأجر بعد أن يعمل، وتكرر الأمر مرة ثانية في حلب، وأخرى في دير الزور وحمص إلا أنه كان مصمماً على الاستمرار.

تجاوز الصعوبات الكبيرة في تلك المرحلة كان متعبا وقاسيا على طفل صغير خاصة فيما يتعلق بطرده من المنزل، إذ يقول سبيعي في ذلك الأمر: طردوني من المنزل، لكن رغبتي كانت فوق كل شيء. كان هناك حافز داخلي يدفعني إلى متابعة هذا الشغف، كنت أنام في الفنادق، بينما كان منزلي في دمشق، كان لدي إيمان بأن هذا فن، وبأن الفنون هي أحد مظاهر تقدم البلد وتطوره.

لم يستطع الفنان العريس متابعة العمل مع فرقته وغادر دمشق بسبب خسائره، ليحلّ مكانه الفنان الدمشقي محمد علي عبدو ويبدأ رفيق العمل معه كممثل وهنا تعرّف على الفنان السوري الراحل عبد اللطيف فتحي الذي طلبه للعمل ملقنا، لكن سبيعي فضل الاستمرار في التمثيل على الرغم من صعوبة تحقيق ذلك، فقد كانت الفرقة التي يعمل معها تقوم بجولة في المحافظات وتتعرض دائما لمضايقات من الفئات المحافظة والمتشددة، وصلت حد وضع قنبلة في المسرح خلال زيارة الفرقة لمدينة حماة.

كبر الفنان رفيق وبدأ العمل ممثلا مع بقاء الهاجس الأكبر لديه هو الغناء ليكتشف لاحقا أنه من غير الممكن أن يكون مطرباً والسبب أن صوته عندما بلغ حد العشرين كان مقبولاً، ولكن بعد ذلك بدأ يضعف، إلا أن الغناء ظل يسكنه باستمرار وشكل شغفا دائما بالنسبة له، فبداياته في التمثيل على المسارح لم تخل من الغناء إلى جانب التمثيل، فغنى لكارم محمود وعبد العزيز محمود وعبد الغني السيد. ويقول: منذ كان عمري 19 سنة وحتى الآن أغني وأمثل وعندي رصيد غنائي جيد.

شادي عباس