كان قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بغزو أوكرانيا خطأً استراتيجياً تاريخياً، فقد فشل هذا الغزو غير المبرر في تحقيق انتصار سريع لموسكو، فهو يواجه حركة تمرد أوكرانية شرسة سبق أن أسفرت عن مقتل نحو 15 ألف روسي خلال القتال، وهو عدد مقارب للخسائر التي تكبّدها الاتحاد السوفياتي على مر حملته الممتدة على تسع سنوات في أفغانستان. في الوقت نفسه، تعرّض الاقتصاد الروسي لضربات موجعة بسبب العقوبات الدولية الاستثنائية، ويمكن سماع الدعوات إلى محاكمة بوتين باعتباره مجرم حرب في جميع أنحاء العالم اليوم، ويسهل أن نفترض أن بوتين لم يتوقع أياً من هذه التداعيات حين أطلق هجومه.

لكن لماذا ارتكب بوتين هذه الأخطاء كلها؟ من جهة، يبدو أنه بالغ في تقدير القوة العسكرية الروسية واستخف بالمقاومة الأوكرانية، ومن جهة أخرى، من الواضح أنه أساء قراءة النهج الغربي، ويبدو أنه كان مقتنعاً بأن الغرب سيتخلى عن أوكرانيا بعد التجارب الطويلة التي خاضها بنفسه، فهو لاحظ ضعف الرد الدولي على حروب روسيا في الشيشان وجورجيا، وضم شبه جزيرة القرم في عام 2014، ودعمه للدكتاتور السوري بشار الأسد، ونظراً إلى انعدام ثقة أوروبا بجدّية التزام واشنطن بالأمن الأوروبي بعد عهد دونالد ترامب وانسحاب إدارة بايدن بأسوأ الطرق من أفغانستان، ربما توقّع بوتين أن يقسم هذا الغزو الأميركيين وحلفاءهم الأوروبيين، مما يعني تحقيق انتصار استراتيجي واسع بدل الاكتفاء بإنشاء حكومة صُوَرية في كييف.

Ad

لو كان بوتين أكثر اطلاعاً على طريقة تعامل الديموقراطيات الغربية مع أي تهديدات كبرى على أمنها، كان سيدرك فوراً أن هذه الفرضيات غير صحيحة، أثبتت تجارب القرن الماضي أن الديموقراطيات الغربية تجاهلت التهديدات الأمنية الناشئة في مناسبات متكررة: هذا ما فعله عدد كبير من الدول قبل الحربَين العالميتَين، والحرب الكورية، واعتداءات 11 سبتمبر، وفي هذا السياق، يقول الدبلوماسي والمؤرخ الأميركي جورج كينان إن الديموقراطيات هي أشبه بوحوش ما قبل التاريخ، مما يعني أنها لا تبالي بما يحصل من حولها لدرجة أن نضطر لضربها على ذيلها كي تدرك أن مصالحها باتت مُهددة، لكن يُعلّمنا القرن الماضي أيضاً أن الديموقراطيات الغربية تردّ بسرعة وقوة وعزيمة حين تتعرّض لضربات قوية بما يكفي، ففي نظر الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، كانت هذه المواصفات تنطبق على الغزو الروسي لأوكرانيا، فهو يُعتبر أوسع استعمال للقوة العسكرية من حيث الحجم والنطاق في القارة الأوروبية منذ عام 1945 ويطرح تهديداً مباشراً على أراضي دول الناتو.

كان الرد الغربي قوياً على نحو مفاجئ هذه المرة، لكن لا يزال الوقت مبكراً كي يعلن الغرب انتصاره. تستطيع الديموقراطيات تشكيل جبهة سريعة وموحدة ضد التهديدات الاستثنائية، لكن من المعروف أنها تميل أيضاً إلى تغيير أولوياتها وإعادة التركيز على شؤونها الداخلية بعد مرور أي أزمة وشيكة، ففي نظر القادة الغربيين، يتعلق التحدي الحقيقي اليوم بكيفية الحفاظ على هذه الوحدة بعد التكاتف السريع لمواجهة عدوان بوتين، وأكد الرئيس الأميركي جو بايدن على هذه النقطة في وارسو خلال شهر مارس، فقال: «يجب أن نبقى موحّدين اليوم وغداً وبعد غد وطوال السنوات والعقود المقبلة»، لكن لن تكون هذه المهمة سهلة، ولتحقيق هذا الهدف على المدى الطويل، يجب أن يتجاوز الأميركيون وحلفاؤهم الانقسامات السياسية والأعباء الاقتصادية المتبدّلة والقيادات المتغيّرة، علماً أن هذه العوامل كانت قد قسّمت الغرب في الماضي، وما لم يحصل ذلك، فقد تبقى الوحدة الغربية بسبب أوكرانيا عابرة، فيصبح الغرب منقسماً ويسترجع الحكام المستبدون قوتهم مجدداً.

جرس إنذار

يعكس عجز بوتين عن استباق هذا الرد الغربي الموحّد سوء فهم كبير لطريقة عمل الديموقراطيات، وينجم تحليله الشائب جزئياً عن واقعٍ مفاده أن الديموقراطيات تميل إلى الاهتمام بمشاكلها المحلية أكثر من التهديدات المتراكمة في الخارج لأنها مسؤولة عن شعبها، فمنذ نهاية الحرب الباردة، بدأت حكومات أوروبية كثيرة تُشكك بنزعة الدول الأخرى إلى شن الحرب لتحقيق أهدافها الجيوسياسية، وافترضت أن التكامل الاقتصادي والعولمة في العقود الأخيرة جعلا الحرب في القارة الأوروبية ظاهرة بالية، فما الداعي للقتال إذا كانت التجارة والتبادلات مربحة لهذه الدرجة؟

قد لا تغضب الديموقراطيات سريعاً، لكنها تردّ بسخط عارم حين تتعرّض مصالحها لتهديدات مباشرة، فلم يتوقع القيصر الألماني فيلهلم الثاني في أي لحظة أن يطلق دعمه للإنذار الذي وجّهته النمسا لصربيا حرباً مع فرنسا والمملكة المتحدة، وقد تكررت العملية نفسها بعد 25 سنة حين أقدم أدولف هتلر على غزو بولندا، فحاولت واشنطن من جهتها أن تبقى خارج الحربَين العالميتَين ولم تنضم إليهما إلا بعدما استأنفت ألمانيا حرب الغواصات غير المحدودة وهاجمت اليابان قاعدة «بيرل هاربر»، كذلك، لم تترسخ سياسة الاحتواء الأميركية، التي حاولت منع انتشار الشيوعية خلال الحرب الباردة، إلا بعدما قررت كوريا الشمالية غزو كوريا الجنوبية، وتقبّل القادة الغربيون حينها فائض السلام الذي تزامن مع انهيار الاتحاد السوفياتي بكل حماس ولم ينهضوا من سباتهم جزئياً إلا بعد اعتداءات 11 سبتمبر.

لكنّ نزعة الديموقراطيات إلى الانتقال من الجمود إلى الحركة الناشطة تبقى مجرّد قابلية محتملة لا قاعدة بحد ذاتها، وغالباً ما يتوقف قرارها على الخيارات التي يقوم بها القادة الغربيون. كانت دبلوماسية بايدن الحذقة في وجه هذه الأزمة المتفجرة أساسية، فهو استعمل مع فريقه التهديد الذي يطرحه عدوان بوتين لتنفيذ وعده القديم بتقوية العلاقات العابرة للأطلسي والمجتمع الديموقراطي ككل، وحين استنتجت الاستخبارات الأميركية في أواخر العام 2021 أن القوات الروسية تستعد لغزو أوكرانيا فعلاً، اتخذ بايدن قرارَين حاسمَين:

أولاً، لن تدافع الولايات المتحدة عن أوكرانيا بنفسها.

ثانياً، سيتعاون الرئيس الأميركي مع أعضاء الناتو وشركاء آخرين لتطبيق استراتيجية ثلاثية المحاور وفرض عقوبات اقتصادية هائلة على روسيا، فضلاً عن تحسين مكانة الناتو في شرق أوروبا وإرسال أسلحة إضافية إلى أوكرانيا لمساعدتها على الدفاع عن نفسها.

بدءاً من منتصف نوفمبر 2021، سعى بايدن إلى إطلاق رد غربي جماعي على الغزو الروسي المحتمل، وأبلغ كبار المسؤولين الاستخباريين الحلفاء بخطط بوتين، وتقاسموا معهم معلومات دقيقة ما كان أهم السياسيين الأميركيين يطّلعون عليها في الظروف العادية. كذلك، تواصل الدبلوماسيون الأميركيون مع نظرائهم لتحضير حُزَم محتملة من العقوبات، والتقى القادة العسكريون الأميركيون مع قادة الناتو وحلفاء آخرين لمناقشة كيفية تحسين جاهزيتهم وإرسال مساعدات أمنية محتملة إلى أوكرانيا. عكست هذه الجهود الدبلوماسية الشاقة قناعة مفادها أن مطالبة الحلفاء بمسائل معينة تعطي نتائج عكسية. كانت واشنطن تحتاج إذاً إلى منح الحلفاء الوقت والمساحة لاتخاذ قراراتهم بأنفسهم، ولم يكن بايدن يحاول حصد الإشادة على دوره القيادي الاستثنائي، بل أراد أن يطلق رداً غربياً موحّداً يتماشى مع حجم الحدث المرتقب.

تحقق ذلك الهدف الأولي بسبب المحاولة الجريئة التي أطلقها بوتين، ولو أنه اكتفى بالاستيلاء على جزء آخر من أوكرانيا، كما فعل في شبه جزيرة القرم، كان بايدن سيضطر للتعامل مع خلافات حلف الناتو المستمرة حول طبيعة هذه الخطوة: هل يمكن تقبّلها أم أنها تشير إلى تجاوز الخطوط الحمراء؟ لكن حين اختار بوتين إطلاق غزو شامل، لم يترك مجالاً للتشكيك بتطرّف تحركاته.

في الاتحاد قوة

لضمان نجاح مقاربة بايدن، يجب ألا تضعف الجبهة الغربية الموحدة التي نشأت ضد الغزو الروسي لأي سبب مع تقدّم الحرب، لكن تتعدد العوائق التي تحول دون صمود هذه الجبهة: سيحاول بوتين طبعاً استغلال الانقسامات داخل التحالف، وقد تظهر خلافات حول طبيعة الخطوات المرتقبة أو التنازلات المقبولة، ولا مفر من أن تتحمّل الدول أعباءً غير متساوية بسبب العقوبات المفروضة على روسيا، مما يؤدي إلى تأجيج مشاعر البغض والخلافات. كذلك، قد تتضاعف هذه المشاكل إذا أطلقت الديموقراطيات رداً غاضباً بدرجة مفرطة، فلا تكتفي بالإساءة إلى الخصم بل تؤذي نفسها أيضاً، وقد يحصل ذلك مثلاً إذا تغيّر الهدف النهائي وانتقل التركيز من استرجاع سيادة أوكرانيا واستقلالها إلى تطبيق سياسة تهدف إلى تغيير النظام في روسيا، حيث يسهل أن تكون الخطوات المرتقبة مفرطة أو خفيفة أكثر من اللزوم.

لا يمكن معالجة هذه التحديات كلها من دون جهود دبلوماسية بارعة، وفي حين يتعامل القادة في واشنطن، وبروكسل، وطوكيو، وعواصم أخرى مع هذا النوع من المشاكل، يُفترض أن يحاولوا إعطاء طابع رسمي للتعاون الذي أطلقه بوتين بوحشيته، مما يعني ابتكار ركيزة واضحة للتحالف الديموقراطي الجديد الذي يدعو إليه الكثيرون منذ فترة طويلة. خلال السنوات المقبلة، قد تظهر تهديدات جيوسياسية أخرى على الأرجح، منها سياسة انتقامية روسية محتملة، ولا يمكن التصدي لها إلا عبر نشوء تعاون قوي ومؤسسي بين الديموقراطيات الكبرى.

بما أن الوحدة تولّد القوة، يجب أن تُحسّن واشنطن دفاعاتها المشتركة وتُعمّق علاقاتها الاقتصادية، فتُشرِك الولايات المتحدة وأوروبا مثلاً في «اتفاق الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ» وتتفاوض حول اتفاق تجاري واستثماري عابر للأطلسي، وكخطوة أولى، يجب أن توسّع هذه الأطراف مجموعة الدول الصناعية السبع كي تشمل أستراليا، وكوريا الجنوبية، والاتحاد الأوروبي. تسمح هذه الخطوة بجمع الديموقراطيات المتقدمة الكبرى في أميركا الشمالية وأوروبا وآسيا تحت مظلة واحدة، وتتصدى بقوة للضغوط التي تتعرّض لها جميع الدول الديموقراطية. أخيراً، يجب أن يستعد الغرب في هذه المرحلة لخوض معركة طويلة الأمد لأن تحدّي بوتين للمصالح والقيم الغربية لن يكون الأخير من نوعه.

* إيفو دالدير وجيمس ليندسي