ذكرتني جملة التحليلات وحملة التوقعات بشأن تأجيل الانتخابات النيابية اللبنانية بما حدث قبيل الانتخابات البلدية عام 2016، حيث كان يدّعي البعض خشيته من حساسية الوضع الأمني في القرى المتاخمة لسورية، ولا سيما في قرية "عرسال" التي صوّت فيها- رغم كل الظروف- أكثر من 58% من كتلة ناخبيها؛ والنتيجة أن شكلت الانتخابات البلدية بتحالفاتها الهجينة وسياقها المطمئن لمعظم الأحزاب السياسية اللبنانية حقل تجارب قاست فيه حضورها الشعبي كتمهيد لانتخابات نيابية أجريت وفق قانون مفصّل على قياس المستفيدين منه، وكانت نتيجتها عدم وجود تغيير جذري في واقع الخريطة السياسية اللبنانية!

وما أشبه اليوم بالأمس، حيث ترافق الإعلان عن موعد الانتخابات النيابية والتحضير لها مع حملة تشكيك كان محركها الأساسي، هذه المرة، خشية الأحزاب والتيارات السياسية من تراجع شعبيتها بعد "ثورة 17 تشرين"، الأمر الذي انقلب تدريجياً الى قناعة معلنة وحملات ترويجية تسوّق لأهمية حصولها، وذلك بعدما ثبت للجميع عجز قوى "الثورة والتغيير" عن لمّ الشمل وتوحيد الكلمة وتنظيم الصفوف!

Ad

رغم التوافق غير المبرر على تأجيل الانتخابات البلدية الأكثر تمثيلاً لصوت الناس والأقرب لواقعهم ومطالبهم، ومع شبه الإفلاس للخزينة العامة، تم تأمين كل المستلزمات اللوجستية للانتخابات النيابية، وتم الاتفاق بين جميع الأحزاب والتيارات الممثلة بالسلطة التنفيذية والمجلس النيابي- رغم اختلاف مشاربها وقناعاتها- على إتمام العملية الانتخابية وإنجاحها، وذلك ليس خضوعاً للضغوط الدولية التي ترى في الانتخابات فرصة لانبثاق سلطة شرعية تتحمل مسؤولية التفاوض مع الجهات المانحة فقط، بل أيضاً لأسباب محلية، خلفياتها سياسية رئاسية وأبعادها إقليمية دولية.

رغم وجود احتمال ضئيل بحدوث خرق في تمثيل بعض المناطق التي تقطنها غالبية ليست شيعية، ومع الإرباك الذي حصل في واقع التحالفات النيابية بانسحاب تيار "المستقبل" من المشهد السياسي، تسعى كل القوى السياسية التقليدية لتثبيت موقعها النيابي وتأكيد شرعيتها الشعبية بما يمنحها حصانة ممتدة لأربع سنوات على الأقل تدفع عنها أي إدانة أو حتى تهمة بتحمل بعض المسؤولية عمّا وصل إليه الشعب اللبناني من تدهور في أوضاعه المعيشية والاقتصادية.

من جانب آخر، تشكل هذه الانتخابات على الصعيد المذهبي تأكيداً للحضور القوي على الساحة المحلية للثنائي الشيعي حركة أمل وحزب الله، بمقابل تراجع كبير ومتوقع في تمثيل الأكثرية السنية المحسوبة على تيار المستقبل، مع احتدام الصراع المسيحي بين تيار "عوني" مربك بفعل وجوده في السلطة وحزب القوات اللبنانية الساعي الى تكريس حضوره المحلي من خلال تحالفات خارجية مستجدة، ويبقى "لمردة" الشمال حضورهم وأهدافهم، حيث يقف زعيمهم سليمان فرنجية- الصديق الأقرب والأوفى للنظام السوري- على أعتاب طموحاته الرئاسية القديمة المتجددة، كما يبقى للدروز والأرمن والأقليات خصوصياتهم التي لا يتعدى فيها التغيير الخطوط الحمراء.

متسرع من يظن أن ما يحدث اليوم في السياسة تتضّح كل معالمه بغضون أيام أو أشهر معدودة، فما يخطط في كواليس القرار الدولي وخلف جدران السياسة المحلية عادة ما تظهر صورته جليّة بعد فترة يكون الرأي العام قد انشغل فيها بحدث أكثر تعقيداً وأحدث وقعاً وأعمق أثراً، فيتقبل النتيجة التي لا يرغب فيها على مضض دون أن يكون له أي خيار برفضها أو مقاومتها، والشواهد في التاريخ القديم والحديث كثيرة ومتعددة، وقد يكون أكثرها وضوحاً في مجتمعاتنا تراجع التضامن العربي ونزعة عدم التعاطف المتصاعدة مع الدماء والمآسي الشقيقة، في ظل انشغال كل شعب بأهوال أزماته وكل دولة بتردي واقعها.

الانتخابات النيابية اللبنانية هذه المرة ليست ككل الانتخابات الاعتيادية التي ترسم المشهد السياسي لفترة محددة في أي دولة في العالم، بل هي زاوية من صورة إقليمية أعم وأعقد تتحكم في معالمها وتفاصيلها التوازنات الدولية.

لن تحدد هذه الانتخابات مصير الأزمة الاجتماعية والاقتصادية فحسب، بل أيضاً ستحدد وجهة لبنان في حلبة الصراعات الدولية التي عنوانها الحرب الروسية - الأوكرانية وشعارها "التوجه شرقاً"، كما ستحدد موقعه في ساحة التقلبات الإقليمية التي يشي بمكنوناتها مشهدان لافتان: أولهما الزيارة المفاجئة للرئيس السوري الى دولة الإمارات العربية المتحدة، وما عقبها من استضافة إسرائيل لوزراء خارجية الإمارات، والمغرب، والبحرين في قمة استثنائية عقدت برعاية وحضور نظيرهم الأميركي، ويأتي ذلك مع اتساع الانشقاق العمودي بين مكونات الشعب اللبناني حول شرعية سلاح حزب الله ودوره المؤثر في النزاعات المحلية والصراعات الإقليمية وفي المفاوضات النووية الإيرانية - الغربية.

الارتدادات القوية التي تخلفها تقلبات المشهد الدولي والإقليمي لا بد- كما العادة- أن تترك وقعها على المشهد الانتخابي والسياسي في لبنان، فالأكثرية النيابية هي التي ستضع في الصندوق اسم المرشح الرئاسي الذي سيتماهى مع ميلان الدفة الخارجية، كما أن هذه الأكثرية هي التي ستختار رئيس حكومة لن يمثّل بالطبع الأكثرية السنية التي سيكون لغيابها حضور ملموس في نتائج الانتخابات، ناهيك عن أن الأكثرية المنتخبة إذا ما شكلت ثلثي المجلس النيابي قادرة على تعديل الدستور واتخاذ القرار في وجه النظام السياسي وفي كل القضايا المصيرية ومسائل الحرب والسلم والاتفاقيات والتحالفات الدولية، وبالطبع يبقى لملف الترسيم البحري والمطامع والمطامح النفطية الكلمة الفصل فيما سيؤول إليه قدر لبنان واللبنانيين.

بعبارة موجزة، إن الأكثرية النيابية القادمة هي التي سترسم وجه لبنان لعقد من الزمن على الأقل، وهي التي ستحدد وجهة الشعب اللبناني وتتحكم في مستقبله الاقتصادي والاجتماعي، فإما أن تثّبت ملامحه العربية، وتعزز صداقاته الإقليمية وارتباطاته الدولية، وإما سيكون لما يحاك في المحافل الدولية والإقليمية رأي آخر قد يفاجئ الجميع بما سيحمله من خلط للأوراق يأخذ بالاعتبار ما يفرضه الأمر الواقع من انتصارات وما يفصّله من توازنات.

* كاتب ومستشار قانوني.

د. بلال عقل الصنديد