في الوقت الذي كانت تُجرى فعاليات تأبين للراحل د. أحمد الخطيب، في مقر المنبر الديموقراطي، والذي تُوفي قبل أسبوعين، جاء خبر رحيل رمز آخر من رموز السياسة الكويتية هو عبدالله النيباري عن عمر ناهز 86 عاما، لتفقد الكويت خلال أقل من شهر، قامتين وطنيتين كبيرتين، وتوقفت ندوة تأبين الخطيب وخيمت حالة من الحزن على الحضور.

فقد فقدت الكويت أحد خيرة رجالاتها المشهود له بالدفاع عن المال العام طوال مسيرة امتدت لأكثر من 60 سنة، حتى كاد يفقد حياته يوما في سبيل هذا الهدف السامي، ونجح في أول انتخابات برلمانية عام 1971، بعد محاولة لم يُكتب لها النجاح عام 1967، بسبب تزوير الانتخابات ذلك العام، ومنذ ذلك التاريخ والنائب السابق المرحوم عبدالله النيباري يتصدى للعمل السياسي العام وللقضايا الوطنية، وعُرف عنه الهدوء في الشخصية، لكنه كان مقاتلا شرسا في الدفاع عن الحق وفي الدفاع عن الديموقراطية الكويتية ومحاربة سراق المال العام.

Ad

ولد الراحل عبدالله النيباري عام 1936، وتدرج في التعليم حتى حاز شهادة البكالوريوس في الاقتصاد من الجامعة الأميركية بالقاهرة عام 1961، وحصل على دبلوم في الاقتصاد من جامعة أوكسفورد البريطانية عام 1963.

والتحق في بداية مسيرته العملية بمجلس النقد الكويتي (البنك المركزي حاليا)، فشغل منصب رئيس إدارة البحوث والرقابة على الصرف خلال الفترة من عام 1964 حتى 1966، وانتقل بعدها للعمل في شركة البترول الوطنية، فشغل منصب أمين سر مجلس الإدارة فيها بين عامي 1966 و1968، ثم مدير إدارة التخطيط والاستكشاف بشركة البترول الوطنية من عام 1968 حتى دخوله مجلس الأمة عام 1971.

مجلس الأمة

ترشح لانتخابات مجلس الأمة للمرة الأولى عام 1967 ولم ينجح، بعد أن حل في المرتبة السادسة، وبفارق 37 صوتا عن مبارك الحساوي حيث تبين لاحقاً أن الانتخابات كانت مزورة، لكن حالفه الحظ في انتخابات عامي 1971 و1975، ولم ينجح في انتخابات عامي 1981 و1985، وبعد الغزو العراقي حاز عضوية مجلس الأمة لثلاث دورات متتالية أعوام 1992 و1996 و1999، ولم يحالفه الحظ في انتخابات عامي 2003 و2006، وكانت هذه المرة الأخيرة التي يترشح فيها لانتخابات مجلس الامة.

وبذلك يُعد رحمه الله من أكثر النواب مشاركة في العمل البرلماني، حتى أن البعض أطلق عليه لقب "المخضرم"، وكان خلال هذه الأعوام التي قضاها في العمل النيابي، من أشد المدافعين عن المال العام في كل القطاعات، ولعل المجال النفطي كان أكثر القطاعات التي أولاها اهتماما كبيرا، ولم يكن ذلك مصادفة، فالراحل بدأ حياته بالعمل في الشركات النفطية بالكويت قبل أن يصبح نائبا بمجلس الأمة، كما أن دراسته الجامعية تخصصت في مجال الاقتصاد، ومن هنا جاء تصدّيه لمجمل القضايا التي تخص النفط، والتي كان أولاها في العام الأول لدخوله المجلس عام 1971، فقد استشعر الخطر من الشركات الأجنبية التي كانت تحتكر النفط الكويتي، فكانت تعمل على تطفيش العمالة الوطنية، إضافة لطلباتها المتكررة بزيادة الإنتاج، الأمر الذي سيلحق الضرر بالاحتياطي العام من البترول، فتصدى لها بقوة، وعقد في سبيل ذلك مناظرة تلفزيونية مع وزير النفط السابق عبدالرحمن سالم العتيقي، ثم عمل مع النواب المستقلين وممثلي التقدميين الديموقراطيين على تعديل حق الامتياز، ورفض اتفاقية المشاركة التي عرضتها شركات النفط آنذاك، فأصبح للدولة حق المشاركة في الامتياز، وليس فقط أن تأخذ نصيبا منه، بما يعطيه الشريك الأجنبي من المال، وطالب مجلس الأمة الكويتي بتعديل المقترح المقدم له من 25 في المئة إلى 50 في المئة، كمشاركة في امتياز النفط.

وسعى رحمه الله مع فريق من زملائه النواب أمثال علي الغانم وسالم المرزوق وعبداللطيف الكاظمي وبدر المضف وناصر الساير ود. أحمد الخطيب وسامي المنيس وأحمد النفيسي ويوسف المخلد وفلاح الحجرف وعبدالعزيز المساعيد وفالح الصويلح ومحمد الرشيد وعبدالكريم الجحيدلي، وبشكل حثيث، إلى تأميم النفط الكويتي بشكل كامل، وخاض معركة طويلة وصعبة بدأت في عام 1971 وانتهت سنة 1975 ليتحقق له ما سعى، ونجح وبدعم من الحكومة الكويتية في التوصل إلى القرار التاريخي بتأميم النفط الكويتي وإنهاء سيطرة الشركات الأجنبية على حقل برقان، والتي استمرت منذ عام 1934، وفي نفس الإطار، تقدم بمشاركة النائبين السابقين سالم المرزوق وأحمد النفيسي بصحيفة استجواب لوزير النفط وزير المالية عبدالرحمن العتيقي، تتعلق بشأن احتياطي النفط الكويتي والكوادر الكويتية في القطاع النفطي، وانتهى الاستجواب، الذي سار بشكل راق، إلى تجديد الثقة بالوزير المُستجوب.

وفي بداية التسعينيات من القرن الماضي، تبنى قضايا حماية المال العام، وناله التجريح والهجوم الشخصي بسبب تصريحاته ومواقفه من قضية اختلاسات شركة ناقلات النفط، ولم يثنِه هذا كله عن مواصلة دوره في محاربتهم وفضحهم في كل منبر. وحتى بعد اعتزاله العمل النيابي عام 2006، إلا أنه ظل مراقبا للأوضاع السياسية بالبلاد والنفطية بشكل خاص، ففي عام 2015، وبعد التعيينات والتغييرات في المناصب القيادية النفطية التي تقدم بها منفردا وزير النفط وزير الدولة لشؤون مجلس الأمة علي العمير، والتي لم تستند إلى أسس دستورية، انتقده الراحل بشدة وعارضه من خلال سلسلة من المقالات، دافع فيها عن مؤسسة البترول، وشرح فيها الآلية الصحيحة المتبعة في قرارات التعيينات التي تصدر عن شركات القطاع النفطي، بما يصب في نهاية المطاف في مصلحة الكويت، ويحمي أهم قطاع بها من القرارات العبثية.

وبعيدا عن النفط، ووقوفا إلى جانب الطبقة الكادحة من الشعب الكويتي، واستشعارا منه بثقل الحمل الذي يقع على كاهل المواطنين، فقد قدم رحمه الله وبمشاركة النائبين السابقين علي الغانم وسامي المنيس استجوابا لوزير التجارة والصناعة خالد العدساني عام 1974، يتعلق بارتفاع الأسعار وإصدار الرخص التجارية، وتمت مناقشة الاستجواب في خمس جلسات، ورغم تصويت 13 نائبا لمصلحة طرح الثقة فإن الوزير العدساني نجا بفضل امتناع 20 نائبا عن التصويت. وفي إطار حرصه على المال العام، وعلى خلفية موافقة مجلس الوزراء على مشروع لآلئ الخيران ومشروع الوسيلة في الفروانية، فقد قدم رحمه الله عام 2003 استجوابا بحق وزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء محمد ضيف الله شرار، الذي طلب التمديد أسبوعين، تمت بعدها مناقشة الاستجواب الذي انتهى بمعارضة 30 نائبا لحجب الثقة.

ولم يكن الراحل من المتحمسين لتعديل الدستور، إلا أن رأيه كان مغايرا فيما يخص المادة 80 من الدستور، التي تتعلق بعدد النواب والوزراء، فقد تبنى رحمه الله منذ عام 1996 تعديلها لزيادة أعضاء السلطتين في مجلس الأمة، حتى لا يشكو المجلس من عدم توافر النصاب في اجتماعات اللجان وفي جلسات المجلس، خاصة عند سفر عدد كبير من النواب أو الوزراء في مهمات رسمية أو ضمن وفود نيابية، وبالتالي يكون لهذا الغياب مردود سلبي في إنجاز القوانين وتعطيل مصالح الناس.

اللجان البرلمانية

وشارك الراحل في عضوية اللجان البرلمانية، فقد كان رئيسا للجنة الاقتصادية والمالية خلال مجلسي الأمة الثالث 1971 والرابع 1975، وفي مجلس الأمة السابع 1992 تم انتخابه عضوا في اللجنة التعليمية خلال دور الانعقاد الأول، وعضوا في لجنة المرافق العامة، ولجنة المرتهنين والمفقودين ورعاية أسر الشهداء، ومقررا للجنة توظيف الكويتيين في الوزارات والمؤسسات الحكومية، وعضو لجنة التحقيق الفرعية المنبثقة عن لجنة تقصي الحقائق، والمختصة بتجاوزات صفقات الأسلحة بوزارة الدفاع لدور الانعقاد الثاني، وعضوا في لجنة شؤون البيئة، ولجنة تقصي حقائق الغزو العراقي خلال دور الانعقاد الأول والثاني، ورئيسا للجنة حماية الأموال العامة في دور الانعقاد العادي الثالث والرابع، وعضو اللجنة المالية والاقتصادية في دور الانعقاد الرابع، وفي مجلس الأمة الثامن 1996 تم انتخابه عضو لجنة المرافق العامة، ولجنة شؤون المرتهنين والمحتجزين ورعاية أسر الشهداء، ولجنة حقوق الإنسان من دور الانعقاد العادي الأول، وفي مجلس الأمة التاسع 1999 تم انتخابه رئيسا للجنة حماية الأموال العامة، وعضوا في لجنة التحقيق البرلمانية في مبالغ البنك المركزي، ولجنة الشؤون التشريعية والقانونية والميزانيات والحساب الختامي.

محاولة الاغتيال

وفي 6 يونيو 1997، تعرض لمحاولة اغتيال فاشلة أثناء عودته من منطقة الشاليهات برفقة زوجته السيدة فريال الفريح، فقد استقل الجناة ثلاث سيارات، وانتظروا النيباري في طريق عودته من الشاليه، ودفعوا سيارته إلى خارج الطريق، بينما تولى أحد الجناة إطلاق النار من رشاش كاتم للصوت، فأصيب برصاصتين واحدة في فكه وأخرى في كتفه اليسرى، وأصيبت زوجته بجرح في ظهرها، وسرعان ما اكتظ مستشفى العدان بالشخصيات السياسية التي آلمها الحدث وذهبت للاطمئنان عليه، يتقدمها رئيس مجلس الأمة السابق أحمد السعدون، والدكتور أحمد الخطيب، وجاسم القطامي وسامي المنيس ومعظم أعضاء مجلس الأمة.

وتم القبض على الجناة، وقضت المحكمة بحبس المتهم الأول سلمان الشملان الرومي، والمتهمين الإيرانيين الثاني والثالث الأخوين محمد وعبدالهادي الاردبيلي بالحبس المؤبد، بينما حكمت على المتهم الرابع عادل المكيمي بالحبس عشر سنوات، ورغم أنه لم يتم تحديد الدافع الحقيقي لمحاولة الاغتيال فإن الدلائل كانت تشير إلى أنها تصفية حسابات، بعدما كشف الراحل عن مخالفات وتجاوزات في عمليات شراء وزارة الدفاع مواد غذائية للجيش.

وبعد نحو 17 عاما من هذه الحادثة الأليمة، قام الأمير الراحل الشيخ صباح الأحمد (طيب الله ثراه) بالوساطة والنصيحة للراحل النيباري، التي قبلها بكل رحابة صدر وتنازل عن حقه، فصدر العفو الأميري بحق المتهم الأول سلمان الشملان، وتم الإفراج عنه بتاريخ 14 نوفمبر 2014، وعُقدت جلسة مصالحة تاريخية بينه وبين الراحل عبدالله النيباري بتاريخ 10 فبراير 2015، وقد أكد رحمه الله عدم تعرضه لأي ضغوط لقبول الصلح مع سلمان الشملان، وشدد على أن عملية الصلح كانت وساطات فقط، موضحا أنه قبل بنصيحة الصلح لرفع قيمة التسامح والتراحم بين أفراد البيت الكويتي الواحد.

المنبر الديموقراطي

كان الراحل أحد المؤسسين للمنبر الديموقراطي، وقد وُلدت فكرة تأسيسه كتنظيم سياسي على الساحة الكويتية خلال فترة الغزو العراقي عام 1990، بهدف توحيد قوى التيار الوطني الديموقراطي في تنظيم سياسي موحد، وبعد التحرير بأيام وفي 2 مارس 1991، انعقد المؤتمر التحضيري له بمشاركة الراحلين سامي المنيس وعبدالله النيباري والدكتور أحمد الخطيب من حركة التقدميين الديموقراطيين، والراحل جاسم القطامي من التجمُّع الوطني، وبعض القوى اليسارية من حزب اتحاد الشعب في الكويت، إضافة إلى عدد من المستقلين، وتم انتخاب هيئة تحضيرية تضم النيباري وأحمد الديين والراحل فيصل المشعان ود. خالد الوسمي ود. علي الزامل ود. غانم النجار، واستمر عمل الهيئة التحضيرية السداسية حتى 5 ديسمبر 1991، عندما انعقد المؤتمر التأسيسي الأول الذي أعلن رسميا تأسيس المنبر الديموقراطي الكويتي، وانتخاب الراحل عبدالله النيباري أمينا عاما له.

حركة التقدميين الديموقراطيين

لم يغِب الحس القومي عن الفقيد خلال دراسته الجامعية بالقاهرة، حاله كحال معظم الطلبة الكويتيين الدارسين في الخارج، هذا الشعور الطلابي الكويتي بالانتماء إلى القومية العربية، دفعهم لنقل هذه التجربة إلى الكويت خلال فترة الخمسينيات من القرن الماضي، وكان في مقدمة هؤلاء الطلبة الدكتور أحمد الخطيب، ولكن هذه التجربة تعرضت للانقسامات، بعد اختلاف الآراء جراء تزوير الانتخابات النيابية عام 1967، فظهرت مجموعة من الشباب، كانت تطالب بالكفاح المسلح لتصويب الأوضاع، وانفصلت عن المجموعة الأم، وحدثت تصفية لحركة القوميين العرب، مما سمح بظهور حركة التقدميين الديموقراطيين عام 1969 من رحم حركة القوميين العرب، وكان د. أحمد الخطيب وعبدالله النيباري وسامي المنيس قادة الهرم لهذه الحركة، وظلوا متمسكين بالنضال السياسي من أجل تحقيق الديموقراطية، ورفضوا اللجوء إلى الكفاح المسلح بكل أشكاله.

ووصف الراحل عبدالله النيباري هذه الحركة بأنها حركة ديموقراطية تقدمية قابلة للتطور المستقبلي، وتسعى إلى تحقيق أهدافها عن طريق النضال السياسي والعمل البرلماني، وحددت الحركة أهدافها في تحقيق السيادة السياسية الكاملة، والتخلف عن النفوذ الاقتصادي الأجنبي بتصفية جميع مظاهر التبعية الاقتصادية للإمبريالية، وتحقيق المزيد من العدالة الاجتماعية والديموقراطية، ومنذ ذلك التاريخ حل اسم التقدميين الديموقراطيين محل اسم القوميين العرب.

و"الجريدة" التي آلمها هذا المصاب، تتقدم إلى أسرة الفقيد بأحر التعازي، سائلة الله تعالى أن يسكنه فسيح جناته، ويلهم أهله وذويه الصبر والسلوان، و"إنا لله وإنا إليه راجعون".

● محمود يوسف