في خطاب وطني قاتم في 24 فبراير الماضي، حذّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من احتمال أن يترافق الغزو الروسي لأوكرانيا مع "عواقب دائمة في حياتنا"، فهو لم يُحدد طبيعة تلك العواقب لأنها واضحة على الأرجح، لكنها لن تكون جغرافية وسياسية فحسب، بل إنها تشمل الجوانب المادية والمالية أيضاً، فكان ماكرون محقاً حين قال إن الحدث الذي أطلق هذه التغيرات "يشكّل نقطة تحوّل في تاريخ أوروبا وبلدنا".

لكن هل ستكون الحرب القائمة في شرق أوروبا نقطة تحوّل في السياسة الفرنسية أيضاً؟ هذا السؤال يشغل ماكرون والمرشحين الذين ينافسونه في 10 أبريل القادم، خلال الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، فقد لا يهدد الهجوم الروسي ضد أوكرانيا الديموقراطية في فرنسا، لكنه يُسرّع على الأرجح التغيرات الحاصلة في طبيعة الرئاسة المتعارف عليها في عهد ماكرون.

Ad

خلال الأشهر القليلة الماضية، ادّعى بعض المحللين الفرنسيين والأجانب أن مستقبل الديموقراطية في فرنسا سيكون على المحك خلال الانتخابات المرتقبة، فكشف أحد الاستطلاعات أن نصف سكان فرنسا على الأقل يشعرون بالقلق من تأثير مارين لوبان وإيريك زمور السام على الديموقراطية، لكن يظن 31% منهم أيضاً أن ماكرون شخصياً يشكّل مصدر خطر آخر، لكن هل يمكن أن تنعكس استراتيجية الرئيس الانتخابية وقوته الأيديولوجية الواضحة سلباً على الديموقراطية في فرنسا؟

على المستوى الاستراتيجي، عمد ماكرون إلى تأجيل الإعلان عن ترشّحه حتى الأسبوع الماضي، وكانت الأسباب التي طرحها ممتازة، فهو يحتاج إلى التركيز بالكامل على وباء "كوفيد19" الذي يجتاح فرنسا والغزو الروسي لأوكرانيا، لكن تتماشى هذه الأسباب نفسها مع استراتيجيته الحذقة التي تقضي بالتفوق على الآخرين والانشغال بحماية فرنسا من التهديدات لدرجة ألا يجد الوقت الكافي لمصافحة الفرنسيين خلال الجولات الانتخابية.

كذلك، سعى معسكر ماكرون إلى تهميش المرشّحة المحافِظة من حزب "الجمهوريون"، فاليري بيكريس، عبر التركيز على حملات زمور ولوبان الهامشية. أصرّت حملته مراراً وتكراراً على اعتبار اليمين المتطرف، لا اليمين التقليدي، خصم ماكرون الحقيقي. قد تكون الرؤية العالمية التي يحملها زمور أو لوبان صادمة، لكنها تحظى بتأييد ثلث الناخبين، ونظراً إلى انقسام الأحزاب في معسكر اليسار، تبقى بيكريس المرشحة الأساسية القادرة على تقديم خيار بديل عن ماكرون للناخبين الفرنسيين، فوفق أحدث استطلاع أجرته صحيفة "لو فيغارو"، تراجعت نسبة تأييد بيكريس مقارنةً بمنافسيها من اليمين المتطرف: تعادل زمور ولوبان وحصدا 16.5% من الأصوات، في حين احتلت بيكريس المرتبة الرابعة واقتصرت نسبتها على 12%.

لكن الخطر الحقيقي يكمن في هذا المجال بالذات، فخلال الجولة الثانية من التصويت، قد يتحول غياب بديل حقيقي عن ماكرون إلى شحّ في الخيارات، مما يعني تراجع تأثير معظم الناخبين الفرنسيين، فما نفع التصويت عند وجود مرشّح واحد؟ وإذا كان ماكرون ذلك المرشّح، يفضّل الكثيرون الامتناع عن التصويت. لم يشارك أكثر من 60% من الناخبين في الانتخابات الإقليمية في السنة الماضية، وقد تتابع هذه النسبة الارتفاع، إنه مؤشر سلبي على انحدار الديموقراطية تدريجاً.

في الوقت نفسه، يجب أن نراجع قناعات ماكرون السياسية، حيث زادت أفكاره وضوحاً حين تحولت جائحة كورونا إلى جزء عادي من حياتنا، يكفي أن نفكر بموقفه عندما تعهد بمضايقة من لم يتلقوا لقاح كورونا بعد، فلم تكن اللغة التي استعملها ماكرون صادمة بقدر القيم السياسية الكامنة وراءها. لقد أوضح حينها أنه يعتبر الواجبات أهم من الحقوق، فزعم أن الدولة التي يمثّلها الرئيس تستطيع أن تعطي وتأخذ الحقوق التي يملكها جميع المواطنين في حالات الطوارئ الوطنية، وفي هذا السياق استنتج الصحافي جان كاتروميه من صحيفة "ليبراسيون" أن ماكرون مقتنع بأن "الحقوق ليست ملازمة للبشر، بل تمنحها الدولة للناس حين ترغب في ذلك".

وجّه ماكرون مسار الأحزاب السياسية التقليدية في عام 2017، فأسس حزباً يخلو من القوى أو الأصوات المعارِضة له، وتبنّى مفهوم الرئاسة العمودي الذي يعتبر الرئيس حجر أساس الدولة، وأدت مهارته في تطبيق هذه المقاربة إلى إضعاف الضوابط المؤسسية الهشة أصلاً ضد صلاحيات الرئيس المفرطة.

يحمل هذا التطور مفارقة بارزة، فحين يفترض ماكرون أنه الشخص الوحيد القادر على حماية فرنسا، فإنه يجازف بإضعاف منصبه أمام الرأي العام، حتى أنه قد يُجرّد الديموقراطية من أهميتها بنظر مواطنيه أيضاً.

● ريل كلير - روبرت زارتسكي