عندما انضمت روسيا إلى الحرب الأهلية المستمرة في سورية، في صيف عام 2015، شكّل تحرّكها المفاجئ صدمة للولايات المتحدة وشركائها، وبدافع الإحباط ادعى الرئيس باراك أوباما حينها أن سورية ستتحول إلى "مستنقع" لروسيا والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بعبارة أخرى قد تصبح سورية مشابهة لتجربة أفغانستان بالنسبة إلى روسيا، فتُعتبر خطأً جسيماً ينعكس سلباً على المصالح الروسية، لكن لم تتحول سورية إلى مستنقع لبوتين، بل غيّرت روسيا مسار الحرب وأنقذت الرئيس السوري بشار الأسد من هزيمة وشيكة، ثم حوّلت قوتها العسكرية إلى ورقة ضغط دبلوماسية.

خلال الشتاء السريالي بين العامين 2021 و2022، بدأت الولايات المتحدة وأوروبا تفكران مجدداً بتدخل عسكري روسي محتمل، في أوروبا هذه المرة. مجدداً، يحذر المحللون من عواقب وخيمة قد تواجهها الجهة المعتدية، فبالإضافة إلى تراجع دعم بوتين وسط النخبة الروسية، قد تُهدد أي حرب محتملة الاقتصاد الروسي وتكبح تأييد الرأي العام للسلطة، حتى أنها قد تقرّب قوات حلف الناتو من الحدود الروسية، فتضطر روسيا لمحاربة المقاومة الأوكرانية خلال السنوات المقبلة، ووفق هذا التحليل، ستصبح روسيا عالقة في كارثة من صنعها.

Ad

لكن يبدو أن تحليلات بوتين للتكاليف والمنافع المحتملة تُشجّعه على تغيير الوضع الأوروبي الراهن، فقد بدأت القيادة الروسية تأخذ مجازفات متزايدة ويتولى بوتين مهمة تاريخية تقضي بتقوية النفوذ الروسي في أوكرانيا، فمن وجهة نظر موسكو، قد يكون الانتصار في أوكرانيا في متناول يد الروس، وقد تطيل روسيا الأزمة الراهنة بكل بساطة من دون تنفيذ أي غزو حقيقي أو تبتكر طريقة ملموسة لفك ارتباطها عن هذا الملف، لكن إذا كانت حسابات الكرملين صحيحة، كما حصل في سورية، فيجب أن تستعد الولايات المتحدة وأوروبا لاحتمال مختلف، فماذا لو فازت روسيا في أوكرانيا؟

إذا فرضت روسيا سيطرتها على أوكرانيا أو نجحت في زعزعة استقرارها على نطاق واسع، فستبدأ حقبة جديدة في مسيرة الولايات المتحدة وأوروبا. قد يواجه القادة الأميركيون والأوروبيون تحدياً مزدوجاً يفرض عليهم إعادة النظر بالأمن الأوروبي وعدم الانجرار إلى حرب أوسع نطاقاً مع روسيا، فيجب أن تفكر جميع الأطراف في هذه الحالة بقدرات الخصوم المسلحين نووياً خلال أي مواجهة مباشرة، قد لا تكون مسؤوليات الدفاع عن السلام الأوروبي وتجنّب التصعيد العسكري مع روسيا متجانسة، لكن قد يدرك الأميركيون وحلفاؤهم أنهم غير مستعدين لإنشاء نظام أمني أوروبي جديد غداة التحركات العسكرية الروسية في أوكرانيا.

قد يبقى التصعيد المستمر بين روسيا وأوروبا بارداً من الناحية العسكرية، لكن من المتوقع أن يحتدم على المستوى الاقتصادي، لم تكن العقوبات المفروضة على روسيا في عام 2014 صارمة جداً، فقد تمحورت حول الدبلوماسية الرسمية وعُرِفت باسم عملية "مينسك" نسبةً إلى المدينة التي جرت فيها المفاوضات، فقد كانت تلك العقوبات مشروطة وقابلة للتعديل، لكن بعد حصول أي غزو روسي لأوكرانيا اليوم، قد تحمل العقوبات الجديدة على القطاع المصرفي ونقل التكنولوجيا طابعاً مؤثراً ودائماً، وقد تُفرَض على روسيا غداة فشل الجهود الدبلوماسية وتبدأ "من رأس الهرم" وفق مصادر الإدارة الأميركية. في ظل هذه التطورات، قد تردّ روسيا على ما يحصل في المجال السيبراني على الأرجح، وحتى في قطاع الطاقة، ومن المتوقع أن تمنع موسكو الوصول إلى سلع أساسية مثل التيتانيوم (روسيا هي ثاني أكبر مُصدّرة له في العالم). كذلك، قد تختبر حرب الاستنزاف هذه قدرات الطرفَين. ستحاول روسيا بكل شراسة دفع دولة أوروبية أو عدد من الدول في أوروبا إلى الانسحاب من هذا الصراع الاقتصادي عبر ربط تخفيف الاضطرابات بمصالح تلك الدول، مما يعني إضعاف الإجماع في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.

بالنسبة إلى الولايات المتحدة، قد يترافق الانتصار الروسي مع تداعيات عميقة على استراتيجيتها الكبرى في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط، وفي المقام الأول، قد تضطر واشنطن للتركيز على المحور الأوروبي إذا حققت روسيا النجاح في أوكرانيا، فلا يمكن منع روسيا من تقسيم الدول الأوروبية إلا عبر تقوية الالتزام الأميركي بالأمن الأوروبي، لكن هذه المهمة ستكون صعبة نظراً إلى الأولويات المتضاربة اليوم، لا سيما تلك التي تواجهها الولايات المتحدة على مستوى علاقتها المتدهورة مع الصين. مع ذلك، تحمل المصالح التي أصبحت على المحك أهمية كبرى حتى الآن، إذ تملك واشنطن حصصاً تجارية واسعة داخل أوروبا، كما أن الحفاظ على السلام والكفاءة في أوروبا قد يقوي السياسة الخارجية الأميركية في ملفات مثل التغير المناخي، ومنع الانتشار النووي، والصحة العامة العالمية، والسيطرة على الاضطرابات مع الصين أو روسيا، لكن إذا اضطربت أوروبا، فستصبح الولايات المتحدة وحيدة في العالم.

يُعتبر حلف الناتو الأداة المنطقية التي تستطيع الولايات المتحدة استعمالها لتقديم تطمينات أمنية إلى أوروبا ولردع روسيا، فقد تؤدي أي حرب محتملة في أوكرانيا إلى إعادة إحياء الناتو، لا كمؤسسة لبناء الديموقراطية وخوض مغامرات خارجية مثل الحرب في أفغانستان، بل كتحالف عسكري دفاعي لا مثيل له، وقد يطالب الأوروبيون بتوسيع الالتزامات العسكرية الأميركية تجاه أوروبا، لكن يُفترض أن يدفع أي غزو روسي واسع لأوكرانيا بجميع أعضاء الناتو إلى زيادة إنفاقهم على الدفاع، ففيما يتعلق بالأوروبيين ستكون هذه الخطوة الدعوة الأخيرة لتحسين القدرات الدفاعية الأوروبية، بالتعاون مع الولايات المتحدة، لمساعدة واشنطن على التحكم بالمعضلة الروسية الصينية.

بالنسبة إلى موسكو التي تخوض مواجهة دائمة مع الغرب اليوم، قد تشكّل بكين مصدراً للدعم الاقتصادي وشريكة أساسية للتصدي للهيمنة الأميركية، وفي أسوأ الأحوال، قد تزيد جرأة الصين بسبب ثقة روسيا المتزايدة بنفسها، فتُهدد بتصعيد المواجهة بسبب تايوان، لكن لا شيء يضمن أن تستفيد العلاقات الصينية الروسية من التصعيد في أوكرانيا، وقد تؤدي الحرب في أوروبا إلى تدمير طموح الصين بالتحول إلى محور اقتصاد أوراسيا نظراً إلى توسّع الشكوك التي ترافق الحروب، وقد لا يضمن الاستياء الصيني من تحركات روسيا الجامحة تقريب المسافات بين واشنطن وبكين، لكنه قد يطلق محادثات جديدة.

على صعيد آخر، قد تثير صدمة التحرك العسكري الروسي الواسع تساؤلات كثيرة في أنقرة، فقد كانت تركيا في عهد الرئيس رجب طيب أردوغان تستمتع بلعبة الحرب الباردة وتتلاعب بالقوى العظمى، لكن علاقتها مع أوكرانيا تبقى مهمة، ولن تستفيد تركيا المنتسبة إلى حلف الناتو من عسكرة البحر الأسود وشرق البحر الأبيض المتوسط، وقد تدفع التحركات الروسية التي تزعزع استقرار المنطقة كلها بتركيا إلى التقرب من الولايات المتحدة مجدداً، مما يعني توسّع الشرخ بين أنقرة وموسكو، وقد ينعكس هذا الوضع إيجاباً على الناتو أو يزيد احتمال عقد شراكة أميركية تركية في الشرق الأوسط، وبدل أن تبقى تركيا مصدر إزعاج، قد تتحول إذاً إلى دولة حليفة.

قد تترافق أي حرب واسعة في أوكرانيا مع نتيجة مريرة أخرى، فتتواجه روسيا والولايات المتحدة كدولتَين عدوتَين في أوروبا، لكن سيعجز الطرفان عن تنفيذ أي أعمال عدائية بعد عتبة معينة، ويجب أن تُبقي أكبر قوتَين نوويتَين في العالم غضبهما تحت السيطرة بغض النظر عن اختلاف رؤيتهما العالمية وأفكارهما الأيديولوجية، وسيكون التوصل إلى هذا النوع من التوازن شائكاً نظراً إلى احتدام شكلٍ من الحرب الاقتصادية والصراع الجيوسياسي في أنحاء القارة الأوروبية، لكن لا تسمح الظروف الراهنة بتصعيد الوضع وبلوغ مرحلة الحرب المباشرة، وفي الوقت نفسه، قد تتوسع المواجهة الأميركية الروسية في أسوأ الأحوال وتتخذ شكل حروب بالوكالة في الشرق الأوسط أو إفريقيا إذا قررت الولايات المتحدة إعادة ترسيخ وجودها هناك بعد انسحابها الكارثي من أفغانستان.

سيكون الحفاظ على التواصل، لا سيما حول الاستقرار الاستراتيجي والأمن الإلكتروني، بالغ الأهمية، وتجدر الإشارة إلى استمرار التعاون الأميركي الروسي في مجال النشاطات السيبرانية الخبيثة رغم اشتداد الاضطرابات بين الطرفين في الوقت الراهن، ومن المتوقع أن تزداد الحاجة إلى الحفاظ على اتفاقيات الحد من التسلح بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا وفرض العقوبات في المرحلة اللاحقة.

في ظل تفاقم الأزمة في أوكرانيا اليوم، يجب ألا يستخف الغرب بروسيا وألا يتكل على مواقف مستوحاة من ظروف يتمنى حصولها، ولن يكون الانتصار الروسي في أوكرانيا شكلاً من الخيال العلمي.

لكن إذا نجح الغرب في تحقيق بعض الأهداف لمنع أي غزو عسكري روسي محتمل، فقد يتمكن من التأثير على الأحداث اللاحقة، وفي معظم الأحيان، تشتق المشاكل من الانتصار العسكري الظاهري، وقد تسحق روسيا أوكرانيا في ساحة المعركة وتُحوّلها إلى دولة فاشلة، لكنها لا تستطيع تحقيق هذه الأهداف إلا عبر خوض حرب إجرامية وتدمير حياة دولة قومية لم تُقدِم يوماً على غزو روسيا، وقد يستخلص الأميركيون والأوروبيون وحلفاؤهم وجهات أخرى حول العالم استنتاجات عدة وينتقدون التحركات الروسية، لكن تستطيع الولايات المتحدة وأوروبا، بفضل تحالفهما ودعمهما للشعب الأوكراني، تجسيد الخيارات البديلة عن الحروب العدائية وشعارات "القوة تصنع الحق". يمكن التصدي للجهود الروسية الرامية إلى نشر الفوضى عبر الجهود الغربية التي تُصِرّ على إرساء النظام.

مثلما احتفظت الولايات المتحدة بنفوذها الدبلوماسي في دول البلطيق بعد ضمّها إلى الاتحاد السوفياتي خلال الحرب العالمية الثانية، يستطيع الغرب اليوم أن يتخذ موقفاً محترماً وأخلاقياً في هذا الصراع أيضاً، ولا يمكن أن يستمر الفوز في الحروب إلى الأبد، بل إن الدول تهزم نفسها بنفسها في معظم الحالات حين تطلق حروباً مغلوطة وتفوز بها.

● مايكل كيماج

● مايكل كيماج – فورين أفيرز