"تعي تنّام ما نصحى" رسالة قالتها أم هي مشاعر اللحظة، فاللبناني يحبس دمعه ويعض على وجعه وينتظر لعل القادم أجمل، كم أنتظر أن يأتي قادم أحلى وجاء، لكنه ككل الفرح سريع "الذوبان" أو سريع التلاشي كالبرد على أرض ساخنة بمخزونها من الحزن!!!

رسالتها انحشرت بين عشرات بل مئات بل آلاف الإعلانات والرسائل لعيد الحب القادم، هم صنعوا أياما لكل شيء حتى للحب، وهو الذي لا تكفيه أيام ولا سنون ولا حيوات متلاحقة، فكيف يكون له يوم؟! وكيف يتقلص إلى وردة حمراء أو علبة "شوكولاه" تشاكليت بلهجة أهلنا في الخليج أو حتى هدية ثمينة صغيرة بحجم حبة من الألماس؟! حتى الحب حولوه كما الأعياد إلى بضع صور أو علامات كلها حمراء.

Ad

أتذكر ذاك المساء وأنا أجلس في "بلكونة" فندقي الملتصق بالنيل وكوبري قصر النيل المزدحم بالسيارات كعادته في هذه الساعة قبل أن ترحل الشمس ويغط المساء سريعا، كثير من العربات، أما الرصيفان على الضفتين فهما شكل من أشكال الأجساد المتلاصقة لا تفرق بينها وبين اكتظاظ الأيام الأخرى إلا تلك البالونات والدببة الحمر في أيدي بنات يتمخترن منتشيات بتلك اللحظة المسروقة بعيداً عن كثير من الأعين وأنواع الرقابات الأخرى.

يومها تذكرت تعرفي الأول على عيد الحب في سنوات الدراسة الجامعية الأولى والفتيات يستعددن في تلك الجامعة البعيدة جداً عن بلداننا وواقعنا أيضا، يستعددن لليلة يحتفلن فيها بعيد الحب مع من يحببن، ضحكنا نحن الفتيات القادمات من خلف جدران عالية من العادات والتقاليد والأعراف والمحرمات. وتساءلنا كيف يحتفلون بعيد الحب؟ وكيف يتلاصقون مع أحبتهم؟ وكيف؟ وكيف؟ وكيف؟ طبعا بعضنا استغفرت واتجهت للصلاة والعبادة أكثر وأخريات أعجبتهن الفكرة، ولكن خوفا من العيون قررن أن الفعل في الخفاء أفضل، بمعنى أن النفاق وصل حتى للحب في مجتمعات تدعي الفضيلة والعفة وتصم الحب بأكثر الأوصاف قبحاً، فهو محرم فقط على النساء لكنه مسموح للرجال، ولم يسأل أحدهم فمن يحب الرجال؟

عيد آخر يضاف للأجندة الحائطية الشديدة البرودة، تلك التي لا ترسل سوى تواريخ متلاحقة، فليس دورها أن تنقل المشاعر التي ترافق تلك الأعياد، فهل مطلوب منها أن تتلون بالأحمر وتضع البالونات وعلب الشوكولاته والقلوب المتوقدة في عيد الحب؟ وهل لها أن تتلون بكل عيد ويوم؟

يقترب عيد الحب وهي تقول بين الضحك والجد "تعي تنّام ما نصحى" هي من بلد يعشق الاحتفال في غير أيام الاحتفالات العالمية، بلد لا يعرف إلا أن يعيش حتى آخر لحظة متبقية من العمر، بلد يتلون مع الفصول رغم صغر حجمه، ويتزين بكل الأعياد رغم أنه مقسمٌ مذهبيا وطائفيا وطبقيا جدا جدا، ولكن شعبه ربما لكثرة الحروب والنزاعات التي عاشها أتقن فن الاستمتاع باللحظة أو مجرد عيش اللحظة وترك الغد للغد.

شعب يحب النور الدائم لكنه يعيش العتمة الدائمة أيضا، شيء منها مرتبط "بشح" المازوت والبنزين والذي منه، وآخر مرتبط بفشل الدولة وتقسيم البلد إلى محاصصات بين الطوائف، ألم يسمه ذاك المبدع "ملوك الطوائف"!! هم ملوك لكل شيء أو الشيء ونقيضه، يتقنون الحزن كما يتقنون الفرح، يعرفون أن على الإنسان أن يعيش اللحظة حتى آخر نفس، وأن عليه ألا يتوقف عن العيش حتى لو انقطعت السبل به!

كلهم يقولون إن عيد الحب مليء بالفرح بتلاوينه رغم أنه أيضا مغمس بالدمع عند الكثيرين الذين لم يعرفوا الحب يوماً أو أبداً، وتمر الأعياد واحداً خلف الآخر، وهم لا يزالون على ذاك الرصيف في تلك المحطة نفسها في انتظار القادم، ربما "جودو" ربما هواي ذاك الذي يتسلل إلى القلب فيتربع ويمتلك، ومع الوقت يتوسع حتى يصبح هو القلب، أو يتمازجان هما فلا تعرف أين القلب وأين الحبيب منه؟

عند بعضهم هو كم وردة وكم دمعة- ربما دموع فرح أو دموع حزن– وخلاص ينتهي اليوم، وتبقى منه بعض ذكرياته لأن الحب لكل الأيام وليس ليوم فقط.

* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.

● د. خولة مطر