حتى الفترة الأخيرة، كان الصومال يتطور بطريقة تصاعدية، فرغم استمرار جهود مكافحة القرصنة والمجاعة والإرهاب، بدأ البلد يتجاوز مشاكله بعد عقود من الحرب الأهلية الدموية، فأعاد بناء قواته الأمنية وسلكه القضائي ومؤسسات مهمة أخرى في الدولة، حتى أنه أعاد إحياء تقليده الديموقراطي الخامد الذي يعود إلى فترة الستينيات، فمنذ عام 2000، تزامناً مع إعادة تأسيس الحكومة الاتحادية الصومالية، انتقلت السلطة بين أربعة رؤساء متلاحقين بطريقة سلمية، لكن ذلك التقليد اضطرب في السنة الماضية، حين عمد الرئيس محمد عبدالله محمد إلى تمديد ولايته لسنتَين إضافيتَين بطريقة غير قانونية، مما أدى إلى تأجيج أسوأ أعمال عنف منذ سنوات وتهديد المكاسب الديموقراطية التي حقّقها البلد بأصعب الطرق.

قوبل استيلاء محمد على السلطة بإدانة شبه عالمية، وتحت الضغوط المحلية والدولية المكثفة، وافق محمد في 27 مايو 2021 على تسليم مسؤولية الانتخابات والأمن إلى رئيس الوزراء محمد حسين روبلي، لكنه عاد وغيّر رأيه وألغى الاتفاق بالكامل، وفي 27 ديسمبر 2021، اقتحمت قواته مكتب روبلي وحاولت وضع رئيس الوزراء تحت الإقامة الجبرية، ودان مجلس الوزراء الصومالي هذه الخطوة لاحقاً واعتبرها محاولة انقلاب.

Ad

اليوم، يبدو محمد مُصمّماً على البقاء في السلطة لأجل غير مُسمّى، ونتيجة الفوضى التي نشرها، فوّتت اللجنة الانتخابية مُهَلاً عدة لإتمام الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وحتى الآن امتلأ أقل من ثلث المقاعد في البرلمان الصومالي المؤلف من مجلسَين (من أصل 329 مقعداً) في خضم عملية شائبة، وتأخرت التحضيرات التي تُمهّد للسباق الرئاسي أيضاً.

في غضون ذلك، استغلت حركة "الشباب" المتشددة والتابعة لتنظيم "القاعدة" الخلل السياسي في مقديشو لفرض سيطرتها على معظم المساحات في جنوب الصومال ووسطها، وما لم تُصعّد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وشركاء دوليون آخرون الضغوط على محمد لحثّه على الالتزام باتفاق 27 مايو، فلن يمنعه شيء من وضع مصالحه الشخصية فوق مصالح الصومال، مما يعني كبح العملية الديموقراطية الهشة التي شهدها البلد في آخر عشرين سنة والمجازفة بالعودة إلى الحرب الأهلية.

الديموقراطيون الأوائل في إفريقيا

منذ عام 2000، كانت الصومال الدولة الوحيدة التي تنظّم انتخابات متكررة وغير مباشرة وتنقل السلطة بطريقة سلمية في القرن الإفريقي، حيث يعود هذا التقليد الديموقراطي إلى الأب المؤسس، عدن عبدالله عثمان، الذي أصبح في عام 1967 أول زعيم إفريقي يخسر الانتخابات ويتنازل عن سلطته لصالح خصمه عبد الرشيد علي شرماركي، فحصل الصوماليون بذلك على لقب "الديموقراطيين الأوائل في إفريقيا".

لكن تجربة الصومال مع الديمقراطية كانت قصيرة الأمد، ففي عام 1969، أطاح القائد العسكري، محمد سياد بري، بالحكومة المُنتخَبة ديمقراطياً وقاد نظاماً دكتاتورياً وحشياً لأكثر من عقدَين قبل أن يُسقطه الثوار في عام 1991، ثم اندلعت حرب أهلية كارثية طوال عشر سنوات قبل أن يؤدي مؤتمر المصالحة الوطنية إلى تشكيل حكومة انتقالية وإقرار دستور ديموقراطي، ورغم استمرار تحديات كبرى على مستوى إرساء السلام وبناء الدولة، شهدت الديموقراطية الناشئة في الصومال نمواً ثابتاً.

في عام 2012، نُظّمت انتخابات برلمانية ورئاسية داخل الصومال للمرة الأولى منذ عام 1967 وقد انتُخِبتُ حينها رئيساً، فكانت تلك العملية الانتخابية غير مباشرة حيث صوّت 135 فرداً من شيوخ العشائر لانتخاب أعضاء البرلمان الذين عادوا وانتخبوا الرئيس، وبعد مرور أربع سنوات، أشرفتُ على تنظيم انتخابات شاملة حيث انتخب نحو 15 ألف شخص 329 نائباً في البرلمان، ثم انتخب هؤلاء النواب محمد خلفاً لي.

لكن بدل تعميق التقاليد الديموقراطية في الصومال، عمد محمد إلى تفكيك المؤسسات الديموقراطية التي نشأت بصعوبة كبرى على مر عقدَين، وفي عام 2018، أقال محمد رئيس مجلس النواب، محمد عثمان الجواري، لمنعه من الإشراف على السلطة التشريعية. كانت تلك الخطوة غير مسبوقة، وقد مهّدت لاستغلال السلطة على نطاق واسع واستفحال الفساد في جميع فروع الحكومة الاتحادية وداخل حكومات الدوائر الإقليمية الجديدة، حيث عيّن محمد حلفاءه لترؤس ثلاث حكومات من أصل خمسة في الولايات.

في الوقت نفسه، استعمل محمد قوات الأمن الصومالية لتقوية نظامه على حساب أمن الدولة وحُكم القانون، فاستُعمِلت القوات التي درّبتها وجهّزتها تركيا وبريطانيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ضد خصوم الرئيس بدل الاستفادة منها لمحاربة حركة "الشباب"، ونتيجةً لذلك، استرجع هذا التنظيم المسلّح سيطرته على مساحات أساسية في آخر خمس سنوات، وفي شهر ديسمبر الماضي، استولت حركة "الشباب" لفترة قصيرة على بلدة "بلعد"، على بُعد عشرين ميلاً من شمال مقديشو، فبات من الأسهل على التنظيم أن يُحكِم سيطرته على محيط العاصمة، واليوم تسيطر هذه الجماعة على معظم طرقات الإمدادات الأساسية في جنوب الصومال ووسطها، مما يسمح لها بجمع الضرائب أكثر من الحكومة الاتحادية.

على جميع المستويات، استرجعت هذه الجماعة المسلّحة قوتها في آخر خمس سنوات، وهي تطرح نفسها الآن كجهة بديلة عن الحكومة الاتحادية، كما فعلت حركة "طالبان" في أفغانستان. لا يريد معظم الصوماليين العيش تحت حُكم جماعة وحشية، لكنهم تعبوا من الحرب المستمرة منذ عقود طويلة، وبدل التركيز على هزم حركة "الشباب" وإرساء السلام في الصومال، أعطت حكومة محمد الأولوية لترسيخ سلطتها السياسية، مع أن الجماعة المسلّحة بدأت توسّع سلطتها في أنحاء البلد بوتيرة ثابتة.

كانت محاولة الانقلاب في ديسمبر القشة التي قصمت ظهر البعير، ومجدداً بدت ردود الأفعال المحلية والدولية سريعة وقوية، فأجمع العقلاء على عدم السماح لأحد بإفساد المكاسب المُحققة في آخر عشرين سنة، لكن قوبلت هذه الانتقادات بتجاهل كبير، إذ لا يزال محمد يستعمل الجيش لإضعاف جهود رئيس الوزراء الذي يسعى إلى إعادة البلد إلى العملية الانتخابية الصحيحة التي توافق عليها جميع الأطراف، ويبدو أن الرئيس سيفعل كل ما يلزم للبقاء في السلطة، حتى لو اضطر للسيطرة على البلد تحت تهديد السلاح.

خضوع دولي

أدان شركاء الصومال الدوليون أسوأ ممارسات محمد للسيطرة على السلطة في الأسابيع الأخيرة، لكنهم خضعوا عموماً للاعتداء المنهجي على المعايير الديمقراطية في آخر خمس سنوات، حيث ينجم هذا الرضوخ الغريب للرئيس الصومالي عن أسلوب الترهيب الذي تستعمله إدارته ضد الجهات المانحة الغربية وشركاء آخرين، وفي عام 2018، طردت حكومة محمد أهم ممثل للأمم المتحدة في البلد، نيكولاس هايسون، لأنه انتقد بأسلوب مُخفف تدخّلها في استحقاق انتخابي محلي في إحدى الولايات الإقليمية، وهذه الخطوة صدمت الأوساط الدبلوماسية التي بدأت تتعامل مع حكومة محمد بحذر، وفي واحد من أسوأ الحوادث، دعمت السفارة الأميركية نتائج انتخابات محلية مزوّرة قبل أن تتمكن الحكومة الاتحادية المسؤولة عن التزوير من تهنئة نفسها.

لكنّ استمرار الرضوخ الدولي سيزيد جرأة محمد الذي يزداد شَبَهاً بأكثر الحكّام استبداداً في المنطقة، فبعد غرق إثيوبيا في صراع أهلي، وتعثّر السودان على طريق الديموقراطية، واحتدام أزمة المجاعة والفوضى في جنوب السودان، تشهد المنطقة أصلاً أعلى درجات الاضطرابات، وقبيل الأزمة الراهنة، نجحت الصومال في السيطرة على العمليات الانتقالية السياسية أكثر من هذه الدول كلها، ويملك البلد حتى الآن الوقت الكافي لتصحيح مساره بمساعدة شركائه.

لا أحد يريد أن يعود البلد مجدداً إلى الفوضى التي شهدها في الماضي، ولهذا السبب، يجب أن يضاعف شركاء الصومال الدوليون جهودهم لمنع محمد من زعزعة العملية الانتخابية، والأهم من ذلك هو أن يضغطوا عليه كي يلتزم بالبند الذي يمنح رئيس الوزراء الحق بالسيطرة على الأجهزة الأمنية بموجب اتفاق 27 مايو، لكن أثبت محمد مجدداً أنه يريد استعمال هذه القوات كجيش خاص به لمهاجمة خصومه أو حتى رئيس الوزراء شخصياً.

رغم كثرة الشوائب ومظاهر التزوير في العملية الانتخابية حتى الآن، لا يقضي الحل بتأخير الاستحقاق بل باتخاذ تدابير تصحيحية، ففي الأسابيع الأخيرة، حاول المجلس الاستشاري الوطني، بقيادة رئيس الوزراء، حصد الإجماع حول عملية انتخابية توافق عليها جميع الأطراف، لكن لإجراء انتخابات حرة ونزيهة، يجب أن يتشاور ذلك المجلس مع هيئة مرشّحي الرئاسة التي تضمّ جميع منافسي محمد، كذلك يجب أن يتمكن المجتمع المدني الذي يشمل الشباب والنساء من المشاركة في تعديل العمليات الانتخابية الشائبة، بما في ذلك الحد من سلطة رؤساء المناطق الإدارية لمنع أسماء معينة من الترشّح.

حان الوقت إذاً لمعالجة الشوائب الواضحة في العملية الانتخابية ثم الانتقال سريعاً إلى تنظيم استحقاق انتخابي سليم. يستحق الصوماليون أن يختاروا رئيساً جديداً بحلول 8 فبراير الجاري، تزامناً مع الذكرى الأولى لقرار محمد غير القانوني بتمديد ولايته، وستوجّه هذه الخطوة رسالة قوية إلى الأجيال الأصغر سناً مفاها أنه لا أحد يستطيع البقاء في السلطة بعد انتهاء ولايته الدستورية!

* حسن شيخ محمد

Foreign Affairs