كتاب د.بنيان سعود التركي "العلاقات الكويتية الإفريقية" يفتتح فصوله بتذكير الكويتيين بماض اقتصادي زاهر، لم تتواصل حلقاته ولم تتطور أسسه مستقلة عن الاقتصاد الريعي البترولي، الذي سرعان ما هيمن على الحياة الإنتاجية ومختلف جوانب المال والأعمال.

أول أبحاث كتاب د.بنيان مكرس للحديث عن اقتصاد كويت ما قبل البترول، وعما لاحظه وعاشه الرحالة الأجانب الذين زاروا البلاد وتأملوا أحوالها وكتبوا عنها الكتب والمذكرات.

Ad

لقد رأوا مدينة حية تنبض بالمال والتجارة، وشعبا بنى حياته بمختلف جوانبها على البحر، تجارة وإنتاجا وغذاء وتفوقا في صناعة السفن، ومهارة فذة في ارتياد البحر والوصول إلى شتى الموانئ والبلدان، في حين كانت دول ومناطق أخرى مجاورة غير قادرة على قهر الفقر والعزلة والتخلف.

ولم تكن التجارة حرفة التجار وحدهم ومسعاهم، بل يقول الباحث إن حكام الكويت كذلك شجعوا التجارة، "فلا عجب أن ازدهرت التجارة في عهد الشيخ صباح بن جابر أول حاكم للكويت، وكان لميناء الكويت دوره"، وهكذا باتت الكويت "منطقة التقاء للتجارة... واعتبرت المنفذ الطبيعي لشمال الجزيرة العربية". (ص8)، فالرحالة الدنماركي "كارستن نيبور" يقول عام 1765 إن "الكويت مدينة تجارية عامرة، وإن سكانها يملكون 800 سفينة ويعتمدون على التجارة وصيد الأسماك والغوص على اللؤلؤ"، وبعكس شكوى الكثير من الاقتصاديين اليوم من مشاكل التصدير والاستيراد في الكويت تقول ورقة د.بنيان إنه "ترتب على نجاح الكويت كمركز لتجارة الترانزيت أن قام تجار من البحرين والبصرة بإيصال بضائعهم وإنزالها في الكويت، ومن ثم نقلها مرة أخرى عبر الطريق البري على ظهور الجمال لتوصيلها إلى حلب وبغداد تفادياً للمكوس الكبيرة التي تفرض عليها في البصرة". (ص9). وبعكس ما يملأ كتب تاريخ المنطقة من هجوم القبائل في البر على القوافل، يقول د.بنيان التركي إن الوضع لم يكن دائما على هذا المنوال، وكانت ثمة بعض الطرق للالتفاف على هذه المخاطر، ويضيف: "من المفيد الإشارة هنا إلى أن عملية نقل البضائع والأمتعة من الكويت إلى كل من بغداد وحلب ونجد بواسطة القوافل كانت تتم بشكل يكاد يخلو من خطر عمليات السلب والنهب التي عادة ما تتعرض لها القوافل من قطّاع الطرق، ولعل السبب في ذلك يعود إلى ما يقدم للزعماء والشيوخ المسيطرين على طرق سير هذه القوافل من هدايا وأموال، وكذلك ما يتم من تعاملات تجارية مع القبائل نفسها، أضف إلى ذلك عملية الدقة في اختيار قيادات تلك القوافل، بحيث تتوافر فيهم العديد من الصفات اللازمة لهذه المهمة منها الحنكة وحسن التصرف والشجاعة والعلاقات العامة والمعرفة بعادات وتقاليد القبائل العربية، ومن المفيد الإشارة هنا إلى أن الرحلة من الكويت إلى حلب تستغرق حوالي 80 يوما بينما تستغرق الرحلة إلى بغداد 30 يوما". (ص10). ومما يلفت نظر القارئ الكويتي المعاصر إشارة الباحث إلى أن بعض السفن الكويتية القادمة من الهند والمتجهة نحو الساحل الشرقي لإفريقيا كانت "تحمل معها من الهند القرميد الأحمر، ومن هناك كانت تجلب الباسجيل والجندل الذي يستخدم لتسقيف المنازل". وفي مبحث د.بنيان إشارات لافتة إلى تجارة الخيل بين الكويت والهند.

وينقل الباحث عن المراجع التاريخية أن الخيول "كانت تشحن من الكويت والبصرة إلى الهند، وكان عدد المشحون منها عام 1816 مثلا بحدود 1500 حصان ومتوسط سعر الحصان الواحد 300 روبية، وكانت السفن التجارية الكويتية من نوع "البغلة" تحمل في المتوسط 80 حصاناً، وقد تصل الحمولة إلى مئة". (ص14).

تتناول الورقة الثانية في كتاب "العلاقات الكويتية الإفريقية" دراسة بعنوان "العلاقات التجارية بين الكويت وشرق إفريقيا 1899-1945"، ويقول "إن نصيب شرق إفريقيا مما تحمله السفن الكويتية في تجارة الاستيراد والتصدير ما بين 1905-1906 كانت نحو 62%، وقد تضاعف نشاط السفن الكويتية عدة مرات بعد استيلاء بريطانيا على البواخر لخدمة المجهود الحربي خلال الحربين العالميتين، فكان عدد القطع البحرية الكويتية التي شاركت في النشاط التجاري 180 سفينة تبلغ حمولة الواحدة منها ما بين 100-500 طن". (ص39).

كان للأسر والعائلات التجارية الكويتية دور مهم ومميز في تطوير العلاقات الكويتية مع شرق إفريقيا، وأبرزها في مجال استخدام السفن الكبيرة، يقول الباحث عن مصادر مختلفة، كان التاجر الكويتي "أحمد بن رزق"، من المعروفين في هذا المجال، ويقول د.بنيان "ويذكر الباحث الكويتي د.عادل العبدالمغني أن الوالي العثماني في بغداد طلب من التاجر الكويتي أحمد بن رزق الذي كانت تربطه صلات قوية بالدولة العثمانية مده ببعض الأخشاب، ولهذا أرسل هذا التاجر الكويتي سفنا كويتية عام 1804 وصلت إلى الهند وجلبت ما يحتاجه من أخشاب". وتقول ورقة د.بنيان إن "عائلة آل معرفي تعد من بين العوائل التجارية الكويتية التي ساهمت في تطور التجارة البحرية، وقد افتتحت لها مكتبا في مسقط لأغراض منها إعادة تصدير التمور إلى إفريقيا، وكان من المعتاد أن تنقل سفن آل معرفي ملحاً وبعض أكياس الأرز وغيرها من السلع الاستهلاكية المطلوبة هناك مثل الأقمشة والأواني". (ص45)

ويتحدث د.بنيان عن نواخذة وربابنة الكويت في نهاية البحث، وأبرزهم النوخذة ناصر عبدالوهاب القطامي، وأحمد فهد الفهد، وعلي ناصر النجدي والنوخذة سعود السميط والنوخذة عبدالعزيز العثمان، وعيسى عبدالله العثمان، والنوخذة عيسى يعقوب بشارة، والنوخذة مفلح الفلاح، والنوخذة محمد ماجد المرزوق. وهؤلاء جميعا كانوا من رواد التجارة مع السواحل الإفريقية والتردد الدائم عليها، ويقول د.بنيان "أما ما ميّز النوخذة محمد عيسى العصفور فهو كونه أول تاجر كويتي يصل إلى موزمبيق ويتاجر مع سكانها في عام 1946، وقد جلب من هناك كميات كبيرة من السكر". (ص49).

لم تتحول تلك التجارة البحرية القائمة على السفن الشراعية بما تمتلك من خبرات كبيرة وتجارب ثرية إلى تجارة بحرية تقوم على أساطيل من البواخر الحديثة الواسعة الحركة كما كانت سفن الكويت الشراعية، فيقول د.بنيان التركي: "بانتهاء الحرب العالمية الثانية وما صاحبها من تطورات نظرا لاكتشاف البترول في الكويت وحصولها على استقلالها عام 1961م، فقد تغير نمط الاقتصاد الكويتي وأصبح النفط عماد الاقتصاد الوطني، ولهذا أخذت الحرف والمهن التقليدية تتلاشى شيئا فشيئا إلى أن أصبحت من الماضي". (ص49).

وكان الأسطول التجاري الشراعي الكويتي بين ضحايا التحول الاقتصادي، وهكذا أسدل الستار على فصل رائع في الاقتصاد وفي التجارة الكويتية مع آسيا وإفريقيا. يدرس كتاب د.بنيان التركي في نماذج مختارة "نواخذة الكويت في مسقط وشرق إفريقيا، وبخاصة المعلم خالد عبدالعزيز العسعوسي 1883-1914 الذي كان أول من تعلم القياس لتحديد موقع السفينة في عرض البحر، حيث كان نواخذة الكويت في السابق يستعينون بمعلمين يجيدون علم القياس من الهند أو غيرها". (ص72).

ويتناول الباحث دور السيدة موضي برجس السور المطيري وعلاقتها بالعمل الخيري في إفريقيا وتأسيس لجنة مسلمي إفريقيا 1982، ويدرس كذلك نماذج من نشاطات الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية في إفريقيا التي استفادت من مساعداته وقروضه عشرات الدول الآسيوية والإفريقية. خصص د.بنيان آخر أوراق البحث في الكتاب لدراسة العلاقات الكويتية السودانية ما بين 1961-1991 حيث بدأت قوية وبخاصة بعد أن بادر السودان بإرسال قوة عسكرية إلى الكويت بعد أزمة قاسم التي أعقبت استقلال الكويت، وقدمت الكويت للسودان حتى عام 1991 حوالي سبعة عشر قرضا بما يزيد على 75 مليون دينار، كما "ساهمت الحكومة الكويتية في توفير حاجات السودان إبان النكبات الطبيعية، فعندما تعرضت في عام 1988 لفيضانات مدمرة قدمت الحكومة مساعدات ضخمة للسودان وساهمت في وزارات وجهات أخرى في تقديم العون والمساعدة للمنكوبين ولمن هم بحاجة إلى المساعدة". (ص159).

ويشير الباحث إلى دور الجمعيات الخيرية الكويتية ونشاطها في السودان، ولعل أبرز ما يورده الكتاب إشارته إلى مشاركة "الكثير من سيدات المجتمع الكويتي في الكثير من أعمال الخير، وبلغ اهتمامهن بالعمل في السودان أن بعضهن زرن السودان، وتجولن في أقاليمه، وهناك قرية كاملة الخدمات سميت قرية (حنان) أشرفت على إنشائها سيدات كويتيات". (ص162).

لقد أضرت سلطة البشير في انقلابه الإسلامي في السودان عام 1989 المدعومة من الإخوان المسلمين ود.حسن الترابي بمصالح الشعب السوداني في موقفها المؤيد للعدوان وقائد النظام العراقي ضد الكويت عام 1990، ويحاول د.بنيان التركي عدم الغوص في هذه التفاصيل، ويقول إن الكويت صدمت "بالموقف السوداني الذي كان سلبيا تجاهها، وتحفظ السودان على قرار الجامعة العربية بإدانة الغزو العراقي رافضا بشكل خاص استعانة الكويت بقوات أجنبية لإخراج القوات العراقية الغازية من أرضها". (ص166).

ختاما نرجو أن تكون هذه بداية جهود أكاديمية موثقة في مجال العلاقات الخليجية الإفريقية، بل تكملة لعطاء الباحث الفاضل د.بنيان سعود التركي المعروف بكتاباته وبحوثه في الشأن الإفريقي والعلاقات العربية الإفريقية وتاريخ سلطنة عمان في زنجبار وتجارة الرق وغيرها من الميادين التي لا يتناولها كثير من الباحثين، والكل واثق أن جهود د.بنيان ستتوج حتما كما هي الحال مع دراسته الحالية بأبحاث قيمة تثري المكتبة العربية.

● خليل علي حيدر