أخذنا في جولة بمبنى بلدية تلك المدينة البعيدة بعراقتها وتاريخها وبدأ الجولة من القاعة التي تحتضن جوائز نوبل للسلام، تلك القاعة التي لم تنصفها عدسات الكاميرات ولا الأشخاص الذين كرموا فيها أيضا، فليسوا جميعا دعاة سلام وليسوا جميعا مستحقين لذاك اللقب، لوحات على جدرانها وسقفها حتى الأرضية مختلفة جدا مثل عمر ذاك المبنى العريق، رسومات ولوحات لفنانين في كل غرفة وكل زاوية بذاك المبنى ولكل لوحة حكاية، هو كالحكواتي العاشق والمتمكن راح يفصل التفصيل ويعيدنا لزمن جميل بالتأكيد كان حتى لو لم نعرفه ولم نعشه.

كنا في ما بين بين، أي بين آخر جلسات الاجتماعات والعشاء الأخير في أوسلو قبل أن نغادر جميعا بعد أسبوع حافل بالنقاشات واستعراض لتجارب لبناء السلام والسلم في دول عدة، ولكن لم يكن بالإمكان أن أغادر دون أن أكتشف هذا اللغز المتمثل بطفل هاجر والداه وهو في الثالثة من عمره إلى النرويج، وهو الآن نائب رئيس بلدية أوسلو، مسافة شاسعة بين حيه الهادئ على أطراف المنامة وأوسلو!!! وقد تسرب ذاك الإحساس بالفخر والسعادة وربما بعض الفضول عندي إلى من كانوا معي، فالسعادة معدية أيضا! وركضنا خلف ذاك الشاب العراقي– النرويجي أيضا ليأخذنا ما بين بين لنلتقي الشاب العربي الذي استطاع أن يأخذ أصوات أكثر من منافسته النرويجية، مما دفع الكثيرين للتساؤل عن سره، فهذا بلد يحترم المرأة ويعطيها الأولوية دوما في الوظائف وغيرها، وعندما فاز بمنصبه وانتشر الخبر بين مواطني ذاك البلد الصغير في قلب الخليج بكثير من الفخر والفرح وسألت الأصدقاء النرويجيين عنه قالوا إن له شعبية كبيرة وهم مستغربون لفوز الرجل على المرأة وليس لفوز ابن المهاجر!!

Ad

استمر هو في الشرح ببساطة شديدة وكأنه مستغرب البهجة التي لبستني ولبست صديقاتي، وبين مقطع وآخر يتحدث عن كفاح العمال والفلاحين النرويجيين الذين بنوا النرويج الحديثة، هو يتحدث ومخيلة كل واحدة تحلق في مدينة عربية بعيدة تبحث بين أزقتها عن قصة نجاح شاب كهذا مهما كان مكافحا ومتفوقا!!! سرحنا نحن النساء الأربع ونحن نتطلع بإعجاب شديد ربما بذاك التاريخ وربما بهذا الشاب أو كليهما معا وما بينهما تقوم بعضهن بالتصوير لتخزين الصورة أو المشهد ليس في الذاكرة فقط بل للمشاركة على أوسع نطاق.

عبدالله الصباغ وهذا اسم نائب رئيس بلدية أوسلو، الشاب البحريني الذي وصل إلى أوسلو وهو في الثالثة من عمره، أي قبل أكثر من ثلاثين عاما كما قال لنا، لم يتوقف عن إثارة الدهشة المبهجة بيننا، تسمعه يتحدث العربية بلهجة أهلنا في النعيم أو المقابة وينتقل إلى النرويجية والإنكليزية بالسلاسة نفسها ويعيشنا معه تاريخ هذا البلد الذي احتضنه وأسرته وهو طفل وانتخبه وهو الأصغر في تاريخ هذا المنصب في العمر، والأول الذي يصل إليه من غير النرويجيين الأصليين رغم أن كلمة أصلي قد تنقرض من القواميس الأوروبية بعد سنوات فيما نحن نلاحق ونبحث عن الأصل!!

بهدوء شديد واجه مطراً وعواصف من الأسئلة من نساء يلتقي بهن للمرة الأولى ولم يعرف إلى الآن لماذا هن في أوسلو، قال لم ينتخبني المسلمون فقط ولا العرب وعقب الشاب العراقي– النرويجي الذي اصطحبنا بقوله: "له شعبية كبيرة فهو يجالس الجميع ويذهب للناس أينما كانوا". عرفنا من هذا اللقاء الـ"ما بين بين" والذي لم يدم حتى ساعة، أن من مسؤوليات هذا المنصب أن يستقبل الملك والملكة عند وجودهما في أوسلو. نعم النرويج ملكية ودولة نفطية أيضا لكنها لا تشبه أياً من دول النفط التي نعرفها جدا جدا!!

النرويجيون لا يحبون البذخ حتى أثرياؤهم لا يبدون كالذين نعيش معهم في دولنا النفطية وغيرها لأن التلويح بالمال أصبح وباء منتشرا بين فئات كبيرة حتى تلك التي لم تعرف النفط، والتي تعيش بمحاذاة الجائعين، وهي تتفنن في رمي الطعام أمام أعينهم أو ربما رميه لهم شفقة وكسبا لمساحة في جنان الخلد!!!

انتهت لحظات ما بين بين سريعة برفقة عبدالله الذي فتح بحورا من الأسئلة التي لا تزال تطاردنا جميعا وأكثرها إلحاحا: "هل يا ترى لو بقي في مدينته هو أو غيره من المجتهدين العرب، هل كان قد وصل إلى هذا المنصب أو غيره فقط لأنه يستحق؟".

* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية

● د. خولة مطر