مع نهاية حكم حزب البعث العراقي عام 2003، تم اكتشاف آلاف التسجيلات الصوتية السرية، التي وثّق بها صدام حسين اجتماعاته مع الآخرين بين عامي 1978 و2001، بلغت في مجموعها أكثر من 2300 ساعة، تسلمتها جامعة الدفاع الوطني التابعة لوزارة الدفاع الأميركية، وفي عام 2012 تم إعداد كتاب يتضمن تفريغاً لـ 99 تسجيلاً منها لمكتب نائب وزير الدفاع الأميركي قبل أن تتم الترجمة إلى العربية بعدها بخمس سنوات، في خطوة متأخرة بالرغم من كون المحادثات أساساً بالعربية، تم نشر بعضها في "يوتيوب"، وبفعل الزمن تحولت تلك الوثائق من أدوات حكم وتحكم إلى أدلة إدانة في درس تاريخي متكرر، وتكمن أهمية تلك الوثائق في كونها الوجه الأكثر صدقاً للعقلية التي جثمت على المنطقة لعشرات السنين، وزرعت لمستقبلها ألغاماً لا حصر لها.

كان النصيب الأكبر من تلك التسجيلات متصلاً بالكويت، كاشفةً عن نوايا صدام السيئة منذ بداية رئاسته، ففي نوفمبر 1979 قال صراحةً إن سياسته تنص على ضرورة التخلص من أمير الكويت الراحل سمو الشيخ جابر الأحمد الصباح – رحمه الله (1)، وبعدها بأكثر من عشر سنوات احتل الكويت إحياءً لحلمه القديم، احتوى الكتاب على تفاصيل 18 اجتماعاً سرياً تم عقده خلال الاحتلال، تضمنت بدورها غرائب لا يمكن أن تخطر على بال أشد مؤلفي الروايات والأفلام خيالاً، أحدها بتاريخ 7 أغسطس 1990 بحضور 12 شخصاً بعضهم معروف والآخر مجهول، كشف من خلاله صدّام عن مدى الوجع الذي سببته له ضربات المقاومة الكويتية ليتفتّق ذهنه عن حيلة شيطانية، وهي إغراق الكويت بالهيروين، لينشغل به الشباب الكويتي عن المقاومة! (2) ويسدي في موضع آخر أوامره بقطع لسان كل من يعترض على سياساته، مع إطلاق النار في حنجرة أي كويتي يعترض على تسميته بالعراقي! وفي سبتمبر أفاده رئيس جهاز المخابرات آنذاك سبعاوي الحسن (أخوه غير الشقيق) بتصديهم للمقاومة عبر إيذاء الأبرياء الذين يقطنون نفس المنطقة، ليؤيده صدام قائلاً: هذا هو المطلوب، وفي اجتماع آخر دار حديث عن جريمة مرعبة لم يقدر لها أن تتم ولله الحمد، إذ تم نصب صواريخ سكود في شمال السودان لقصف السد العالي بمصر في اللحظة المناسبة (3) ولو قدر لها أن تتم لأسفرت عن دمار لا يمكن تصوّر مداه، وفي مقابل ذلك نجح في تنفيذ مخططه بحرق آبار النفط الكويتية، بعد أن تعهد لرفاقه بذلك أكثر من مرة، ومنها اجتماعه بتاريخ 18 يناير 1991 بتسجيل متاح في "يوتيوب"، طالباً من رفقائه بالحزب أن يمهلوه بعض الوقت لتنفيذ وعده بتفجيرها.

Ad

لم تتوقف نزعته الانتقامية عند ذلك الحد، ففي نوفمبر 1990 قال صدّام إن أسلحته الكيماوية والجرثومية ستفني أعداءه وتهلكهم وتحرقهم، إذ تم تطوير طريقة ذات قوة تدميرية تتجاوز 200 ضعف قدرة السلاح الكيماوي الذي استخدمه سابقاً (4)، بمفعول سيمتد لأربعين عاماً، ويتخلل ذلك الحديث السادي موجات من الضحك والتنكيت على الأثر المتوقع لتلك الأسلحة على الضحايا، وفي يناير 1991 وقبيل انتهاء مهلة التحالف الممنوحة للانسحاب من الكويت، أمر صدّام وزير التصنيع العسكري وزوج ابنته حسين كامل بمباشرة تثبيت الجراثيم على رؤوس الصواريخ، والاستعداد لإطلاقها، على أن تكون الرياض أول الأهداف (5)، وتداخل مع الأصوات صوت النادل مقدماً أطباق الطعام في مشهد أقرب للسريالية منه للواقع، وفي عام 1996 اضطر للتخلص من تلك الأسلحة، بعد أن وشى حسين كامل بأسرارها، عقب انشقاقه طمعاً في كرسي الحكم، لتكون نهايته الدموية والتي تطابقت لاحقاً مع نهاية قاتليه.

بالرغم من أن صدّام لم يجد حرجاً في توثيق كل ما سبق فإن الاستثناء الوحيد كان من نصيب الأسرى والمفقودين، ففي اجتماع غير مؤرخ بين عامي 1991 و1992 ورد ذكر قضيتهم أثناء الاجتماع المخصص لمناقشة كيفية التعامل مع مفتشي الأمم المتحدة، ليأمر صدّام كادره بإيقاف التسجيل مؤقتاً للبوح بحقائق لا تصلح للتوثيق، ليتم بعدها بدقائق استئناف التسجيل من غير العودة لهذه المأساة الإنسانية لا في هذا الاجتماع ولا في غيره (6)، نطوي صفحات هذا الكتاب مثلما طوى الشهر الماضي الصفحة الأخيرة من كتاب التعويضات العراقية، التي استمر سداد فاتورتها للكويت المستحقة، والبالغة 52.4 مليار دولار لأكثر من 31 عاماً، متطلعين لاستخلاص العبر من صفحات التاريخ بأن تنصب القُدرات والمقدّرات في مصلحة الأوطان والشعوب، ببوصلة تشير للإنسان.

***

1- SH-SHTP-D-000-559

2- SH-SHTP-A-001-232

3- SH-SHTP-A-000-671

4- SH-SHTP-A-000-848

5- تقرير ديلفر، المجلد الأول، القصد الاستراتيجي للنظام (ص97-100)

6- SH-SHITP-A-001-269

● فيصل خاجة