فيما بدا أنه تعبير عن اتجاهين متناقضين لحكومة واحدة، شهد الأسبوع الجاري حدثاً إيجابياً على مستوى المالية العامة، قابله على مستوى الإدارة الحكومية سياسة ذات طابع سلبي، ربما يكون لها آثارها المتكررة خلال الفترات المقبلة.

وتمثل الحدث الإيجابي، ولو جزئياً، في إعلان وزارة المالية مرئياتها بشأن موازنة السنة المالية 2022-2023 التي تضمنت- للمرة الأولى منذ تراجع أسعار النفط عام 2014 - خفضاً لمصروفات الميزانية بواقع 4.8 في المئة عن العام الماضي مع تراجع قيمة مصروفات الإنفاق الرأسمالي في الميزانية، مما يشير إلى توجه جديد لإعادة هيكلة بعض المشاريع التي تطرحها الدولة من نظام المناقصات إلى مشاريع الشراكة، في حين استقر العديد من الاختلالات المتكررة في الميزانيات السابقة على حالها، وأبرزها إنفاق 75 في المئة من مصروفات الميزانية على الرواتب والدعوم، وضآلة حجم الإيرادات غير النفطية من إجمالي الميزانية، رغم توقع زيادتها بـ 15 في المئة عن العام الماضي، لكنها لا تغطي أكثر من 17 في المئة من مجمل الإيرادات، فضلاً عن استمرار التخلي عن السياسة التحوطية الأبرز في المالية العامة للدولة المتمثلة في استقطاع 10 في المئة من الإيرادات النفطية لمصلحة صندوق احتياطي الأجيال القادمة للعام الثالث على التوالي.

Ad

جرعة تفاؤل

ربما يؤخذ على الميزانية الجديدة زيادة جرعة تفاؤلها بأسعار النفط العالمية، وهو تفاؤل رغم أنه يتسق مع توقعات كبريات شركات وبنوك الاستثمار في العالم مثل «جي بي مورغان» و«غولدمان ساكس» فإنه في المقابل، لم يأخذ بعين الاعتبار التقلبات التي تواجه أسعار النفط في العالم بسبب التداعيات السلبية لفيروس كورونا «كوفيد 19» وتحوراته على الاقتصاد العالمي، فضلاً عن الرهان على الأسعار المرتفعة للنفط والإنتاج المتصاعد لتحقيق سعر تعادل للميزانية يبلغ 75 دولاراً للبرميل بما يقل عن سعر التعادل في العام الماضي البالغ 86 دولاراً للبرميل بـ 14.6 في المئة... في الحقيقة، فإن كل ما سبق من عوامل تدعم التفاؤل كأسعار النفط المرتفعة أو كمياته المتزايدة، هي خارجة عن سيطرتنا كدولة، مع الأخذ بالاعتبار عوامل أخرى تتعلق بتقليص البنوك المركزية في العالم لشريحة مهمة من سياسات التحفيز التي واكبت أزمة كورونا في العالم، والسياسات التي تتبناها لكبح جماح التضخم في العالم، وهي في مجملها عوامل تؤثر على ما يعرف بشهية المخاطرة لدى المستثمرين، بما يؤثر سلباً على أسعار الأصول، والسلع، لا سيما النفط.

تحدي السقف

وأياً كانت الملاحظات على الميزانية الجديدة، فيحسب لها الرهان على وضع سقف للإنفاق العام، وهو تحدّ حقيقي لوزارة المالية، التي لم تستطع في سنوات سابقة تحقيقه، إذ لم تكد تضع في السنة المالية 2019-2020 سقفاً مالياً لمصروفات ثلاث ميزانيات عامة قادمة حتى تخلت خلال الأشهر الأولى من عمر السنة الأولى عن سقف المصروفات، وعاد الإنفاق نحو الانفلات مجدداً، وفي كل الأحوال فإن الحساب الختامي هو الذي سيبين الجدية في تنفيذ التصورات الخاصة بإصلاح الميزانية.

توجه مناقض

في المقابل، كشف التعامل الحكومي مع ملف بنك الائتمان لتمويل الرعاية السكنية لمدينتي المطلاع وجنوب خيطان عن توجه مناقض وسلبي لما يمكن وصفه بعلامات إيجابية قدمتها الميزانية الجديدة، فكانت مالية الدولة ومهنية مؤسساتها في تمويل بنك الائتمان قرباناً لكرسي وزير الدفاع الذي يواجه استجوابه في مجلس الأمة، فتخلت الحكومة دون مقدمات عن كل تحفظاتها منذ سنوات بشأن صعوبة استدامة آليات التمويل الحالية لـ «الائتمان»، وضرورة إقرار قانون التمويل العقاري لتسارع في رأسمال البنك الذي رفضت رفعه في وقت سابق، ولتضغط على الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية ليؤجل استحقاق سداد سندات بقيمة 500 مليون دينار تستحق في أبريل المقبل كان الصندوق رفض تأجيل استحقاقها في وقت سابق (...) بالإضافة إلى منح تمويل إضافي من الصندوق لـ «الائتمان» بـ 300 مليون دينار!

وللعلم فإن الحكومة والمجلس شددا لدى إقرار قانون زيادة رأسمال «الائتمان» على أنها خطوة لا تلبي إلا نصف احتياجات سكان مدينتي المطلاع وخيطان على المدى القصير، فالمعالجة أصلاً لم تكن لمصلحة المتضررين من تأخر الرعاية السكنية إنما توفير بيئة الأمان، التي تضمن تجاوز وزير الدفاع التصويت على طرح الثقة.

مالية الدولة ومؤسساتها

مبعث القلق من هذا السلوك الحكومي لا يتعلق بتوفير مبالغ نقدية لمستحقي الرعاية السكنية، إنما في تسخير أموال الدولة ومهنية مؤسساتها للمقايضة في حماية كرسي لوزير أو رئيس للحكومة، لا سيما أن العديد من نواب مجلس الأمة لديهم العديد من المقترحات الشعبوية ذات الكلفة السلبية على مالية الدولة ومؤسساتها، كإسقاط القروض، أو فوائدها، أو حتى تأجيلها، أو توزيع ما يسمى بأرباح محفظة التأمينات الاجتماعية على المتقاعدين، أو توزيع جزء من عوائد الصندوق السيادي على المواطنين، فضلاً عن مقترحات متنوعة بشأن زيادة علاوات الأولاد، أو رفع مخصصات إعانات ذوي الإعاقة أو الاستبدال النقدي للإجازات السنوية للموظفين وغيرها الكثير من المقترحات الشعبوية، التي لا تنتهي، وتركز غالباً على الريعية المالية مقابل تجاهل الرفاهية الحقيقية، التي تتمثل في جودة الحياة والخدمات... وعندها لا يمكن تخيل شكل الدولة التي تقايض سلامة المناصب الوزارية بمالية الدولة وكفاءة مؤسساتها النادرة أصلاً.

لا شك أننا أمام سلوكين حكوميين متناقضيين؛ الأول عبّر عنه مشروع ميزانية الدولة 2022 - 2023 خطا فيه خطوة محدودة لكنها جيدة ولافتة في سبيل الإصلاح الاقتصادي والمالي، وأغلب الظن أنه ناتج عن اجتهاد طيب من وزير المالية لا الحكومة، والثاني سلوك خطير قد يفضي مع زيادة الاستجوابات والمقايضة إلى جعل لكل كرسي في الحكومة ثمناً على حساب أموال الدولة ومؤسساتها... وفي النهاية، فإن السلوك الخطير إذا كان سياسة للحكومة فإنه سيقضي على أي اجتهاد طيب فيها لن يتعدى أثره المدى القصير.

محمد البغلي