هكذا نحافظ على التراث؛ نعتز بالبادية فنترك المدينة للتصحّر... أو تغرق في "شبر ميّة" مع كل مطر!

ثم نحتفل بخَبرات المياه ومستنقعات القُرى لأن فيها من "ريحة البحر"، البحر الذي بقيت منه صورة لا يمكن رؤيتها إلا من نوافذ المباني التي دكّت قانون "حقّ المطل" والمطاعم التي انتشرت على مدى الساحل، أما المشتاقون إلى البحر؛ فيمكنهم التسلل عبر فجوات المباني ليجلسوا عند الصخور التي تكوّمت متأملين طويلاً، يسندون ذقناً بيدٍ ترتكز على ركبة هشة، بشكل أدق؛ كتمثال رودان "المفكر" في المصير.. وقد تظهر الجرذان التي تسكن بين الحجارة ليدرك هؤلاء أنهم يحدقون في "الهاوية"، فيهربون منها كي لا تنظر إليهم وتنفذ كما حذر نيتشه!

Ad

تفصيلاً لما سبق؛ كفّ الرعاة الرسميون عن قص الأشرطة الحمراء في ظل انشغالهم الحثيث لنشر فوّاحات عطور الليذر والصندل في أنحاء المعمورة، لتذكرنا وهي تنفذ من الكمامات، بعبق التاريخ ونشر رائحة الماضي، جنباً إلى جنب قاعات تلقّي جرعات التطعيم التي كانت- في زمن سابق- ملتقى دور النشر والمكتبات عند إقامة معرض الكتاب، حتى تم إلغاؤه حفاظاً على صحة البشر وعقولهم من التلوث الفكري بأفكار لا تمتّ إلى ثقافتنا الأصيلة بمحتواها العميل للاستعمار، وبذلك تمكنوا من ضرب ثلاثة عصافير بـ"نبّاطة" واحدة: نشر عبق التراث، والتقليل من الغبار الكوني المترسب من الكتب على بيوتاتنا، وتوفير مساحات جديدة لأسرّة الأطفال القادمين رغماً عن أنف سوفوكليس وشوبنهاور وسيوران وديفيد بيناتار ومن لفّ لفّهم في إغلاق حضانات الأطفال.

أما المكتبات الأهلية، ففرقة مداهمة العقول الخاصة تشن جولاتها وصولاتها عليها بانتظام، للتأكد من خلوها من كل "ما يمتّ" للاغتراب بها بصلة، ولمنع أي تجمعات ينبسّ منها لحن أو تطل من رؤوسها فكرة مارقة، بالرقابة المشددة والتعليمات الإصلاحية القويمة و"القِطاف" العريق.

إضافة إلى ذلك؛ تكللت مساعي أصحاب الأيادي الزرقاء، بدعم من حزب المحافظين في تأجيل مشروع شارع عبدالله الأحمد "الشانزليزيه الثقافي"، لحين البتّ في أبعاده النفسية والاجتماعية والفكرية والتأكد من التزام مكتباته ومقاهيه ومؤسساته- مزمعة البناء- بثوابت الأمة بعيداً عن هرطقات الفلاسفة، مع النظر في إمكانية منع مرور النساء وكل ما يمتّ بصلة إلى النسوية بحكم أنها تسطيح لعقول بناتنا وأمهاتنا لما فيها من خروج إلى الشارع و"طق حنك" كما لا يخفى على صاحب البصيرة.

المباني القديمة؛ سارع المسؤولون في سباق مع الزمن، على قدم وساق وجرافات إسنادية، لتدشين عمليات هدمها ونسفها بأكمل صورة، لمحوها من وجه البسيطة ومنعاً لتحولها إلى مزارات دائمة يتم الاعتزاز بها وربما تقديسها عند ضعاف العقول، فكل ما يسبب الدهشة والانبهار للإنسان لا بد من تحطيمه درءا للفتنة بالفنون وكفّاً لـ"هفوان" النفوس إليها.

وحول ما يتعلق بالتعليم.. نكتفي بما تسببت فيه الجائحة، كيلا نفقد صدقية الحديث في مستقبل أبناء هذا البلد المشرق حيناً والمظلم أحياناً أخرى، لأن العابث في زر مصابيح المشهد ما زال مجهول الهوية.

ما علاقة الصحراء والبحر بكل ما سبق؟ الإجابة في أغنية تذكرتها بإيقاع حزين بين مجريات أحداث الواقع ومجاري الأمطار التي فاضت في قاعة "٦"؛ "طق يا مطر طق يا مطر مرزامنا حديد...، طق يا مطر طق يا مطر مرزامنا حديد".

ملاحظة:

ينبغي الإشارة إلى أن بعض ما كُتب هنا محض خيال وخبط حسرات لا تمتّ إلى الحقائق الرسمية المعتمدة للنشر بصلة.

● أفراح الهندال