إذا كان استخدام مصطلح "الرأسماليين الجدد" كشكل جديد من أشكال الرأسمالية، يتميز بتصحيح تجاوزاته عن طريق تطبيق تدابير تحمي الرفاهية الاجتماعية، فتخيل أن تسوء الحال فنجد طبقة جديدة من الرأسماليين تتميز بتجاوزاتها التي تحقق التشوه الاجتماعي!

ولمَ لا، ونحن أمام طبقة من النجوم (صانعي المحتوى) على وسائل التواصل الاجتماعي، شغلوا واحتلوا المجال العام لا الواقع الافتراضي فحسب؛ فهم طبقة تصعد إلى أعلى قمة السلم الاجتماعي والاقتصادي، وتلمع على حساب كل القيم الاجتماعية، وتتكسب عبر تشويه الوعي الجمعي لأجيال كاملة، فأصبحوا "أهل القمة" الجدد.

Ad

نحن نتحدث الآن عن الآلاف من "صانعي المحتوى" ومستخدمي وسائل التواصل بمختلف مسمياتها ومحتوياتها، من "بلوغرز" و"يوتيوبرز" و"تيك توكرز"، وكل ما آخره (ز)، إما عن طريق تقديم محتوى ترفيهي فارغ، سمج في أغلبه، أو "تثقيفي" مجهّل مُغرض في معظمه.

دعنا نناقش الأمر من وجهة نظر اقتصادية، ونتناول تأثير هؤلاء النجوم عليك أنت، أيها "الفان"، شخصياً، وعلى قدراتك المالية وأحوالك المعيشية،

وبصرف النظر عن المحتوى الذي يقدمه أي منهم، والذي لم ولن يتوافر فيه إلا ما يمكن أن يتوافر بتجاهله؛ فالواضح أن هذه القنوات تحقق عائداً مادياً معتبراً لأصحابها، حسب ما يبدو عليهم من تغيير في ظروفهم المادية وأساليب معيشتهم وسلوكهم في الإنفاق، وحسب ما نشرت وسائل إعلامية عديدة عن حجم عوائدهم المالية من قنواتهم وحساباتهم، والتي تقدر في معظم الأحوال بملايين الدولارات، كان آخرها تقرير صادر عن مجلة فوربس، عن عوائد قنوات صانعي المحتوى، على مستوى العالم، ذكرت فيه أن أفضل 10 نجوم على "يوتيوب" حصلوا معاً على 300 مليون دولار في عام 2021.

أما على الصعيد المحلي والإقليمي، فلا يخفى أن كثيراً من صانعي المحتوى العرب، قد مثلوا مؤخراً أمام القضاء بملاحقات قانونية وقضائية بشبهة تضخم الثروات وغسل الأموال، بالإضافة إلى أن بعض الدول العربية اتخذت إجراءات أخرى تجاههم كفرض الضرائب بنسب تتناسب مع دخولهم العالية إسوة بدول أجنبية كالولايات المتحدة التي فرضت ضرائب على منشئي المحتوى على "يوتيوب".

لا خلاف ولا اعتراض على الرزق وأسبابه ومشيئة مانحه وحكمته، بل إن من سلام النفس البشرية تمنّي منح الرزق إلى كل من يستحقه، وكل من يجتهد ويفيد ويضيف، أما في هذه الحالة فأين الاجتهاد؟ وأين الإفادة والإضافة؟

إذاً، نحن أمام ثروة متكدسة في يد مجموعة من الأفراد مُنِحوا هذه الثروة الهائلة في وقت قصير جداً، ودون بذل مجهود يذكر، وعبر عمل إذا تم تقدير قيمة مخرجاته، بمعايير الاقتصاد، فلن تزيد على صفر، في حين حقق هذا العمل عائداً كبيراً، عادة ما يُنفق في أدوات وسلع يتم استخدامها مرة أخرى في تطوير هذا العمل ذي القيمة صفر، كالرحلات السياحية والملابس والسيارات والمنازل وحتى ارتياد المطاعم والمقاهي الفاخرة، ومعظمها سلع استهلاكية وترفيهية، الأصل في الحصول عليها عندهم يهدف إلى استعراض فيديوهاتهم ذات المحتوى صفر مرة أخرى، كوسيلة من وسائل الترويج والتسويق لزيادة متابعيهم، وبالتالي زيادة ثرواتهم.

وبمعادلة اقتصادية بسيطة فإن زيادة الطلب على هذه الأدوات والخدمات والسلع تؤدي إلى تضخم أسعارها بنسب عالية جداً، للدرجة التي يصعب عليك أنت شخصياً كمتابع لهؤلاء الحصول عليها والتمتع بها، فنحن أمام كارثة اقتصادية حقيقية، وهي ما يعرف بالركود التضخمي، حيث لا نشاط اقتصادي حقيقي، ولا نمو اقتصادي يقابله ارتفاعات هائلة في الأسعار ناتجة عن عمل ليس له قيمة مضافة على الإطلاق.

ونحن نهنئك لأنك قد أصبحت مساهماً رئيساً في تأزيم الاقتصاد في بلدك، عبر تحقيق عوائد لعمل لم يحقق لك أي إضافة، ولم يشوّه وعيك وقيمك فقط، بل أدى إلى حرمانك من سلع وخدمات كان من الممكن أن تحصل عليها وتتمتع بها بثمن رخيص، وبمقابل مادي أقل، لولا متابعتك لهؤلاء، ولولا أنك "فان".

● تامر عبدالعزيز