بدأ النظام العالمي المُصمّم لمنع الانتشار النووي ونزع الأسلحة يتصدّع بكل وضوح، فقد صمد هذا النظام لأكثر من نصف قرن، لكن تعمد دول متزايدة إلى اكتساب مواد وتقنيات نووية حساسة عبر عمليات الشراء غير القانونية والتجارة التفضيلية، ففي مايو 2021 مثلاً، ذكرت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن إيران جمعت عشرة كيلوغرامات من اليورانيوم عالي التخصيب ومنعت دخول المفتشين إلى مواقعها النووية، وفي نوفمبر 2021، أعلنت أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة عقد شراكة استراتيجية جديدة (اتفاق أوكوس) كي تصبح أستراليا أول دولة غير نووية تتلقى وقوداً عالي التخصيب لغواصاتها العاملة بالطاقة النووية، ومن المستبعد أن تستعمل أستراليا هذه الكمية من اليورانيوم لتصنيع القنابل، لكن تشكّل هذه العملية سابقة خطيرة.

تؤكد هاتان الحالتان زيادة التحديات التي يواجهها نظام منع الانتشار النووي، فتاريخياً، كان إطار العمل الذي حدّدته "معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية" في عام 1970 يتكل على رسم حدود واضحة وفرض مراقبة دولية على عمليات تخصيب اليورانيوم وإعادة معالجة البلوتونيوم، لكن بدأ انتشار هذه المواد والتقنيات النووية الحساسة يُضعِف هاتين العمليتين معاً، وزادت صعوبة التمييز بين البرامج النووية المُصمّمة لأغراض سلمية وتلك التي تهدف إلى تصنيع القنابل، حتى أن أدوات رصد النشاطات المقلقة ومعالجتها بالطرق الدبلوماسية عبر الوكالة الدولية للطاقة الذرية أصبحت بالية على الأرجح.

Ad

لتجديد دور نظام منع الانتشار النووي كحصن منيع للاستقرار العالمي، تحتاج الدول والمؤسسات الدولية إلى طرق جديدة لتعقب مسار تطوير الأسلحة النووية والتعامل معه، وتتطلب هذه العملية مقاربة مبتكرة لمراقبة النشاطات الخطيرة وضبطها، فيجب أن ترتكز هذه المراقبة على أدوات جديدة لتعقب أي مؤشرات إضافية تثبت تصنيع قنابل محتملة لا تحمل غايات سلمية بطبيعتها، على غرار تطوير وتصنيع الرؤوس الحربية النووية الخاصة بالصواريخ أو أي مركبات توصيل أخرى، لكن لا تقتصر مراقبة هذا النوع من النشاطات على عمليات المراقبين النوويين التقليدية، بل يُفترض أن تقدّم اليوم أفضل طريقة للتأكد من محاولات الدول اكتساب أسلحة نووية.

نظراً إلى تصاعد النشاطات النووية اليوم، يجب أن يتحرك العالم سريعاً لإنشاء هذا النوع من الأنظمة، وحين تتراجع قدرة القوى على منع تخصيب اليورانيوم أو تبدأ بتسليم مواد عالية التخصيب إلى دول أخرى، لا مفر من أن يتشجّع المنافسون على تعزيز برامجهم، وعندما تُطوّر دول جديدة القنابل، ستُشجّع بذلك على توسيع الانتشار النووي، وفي هذه الحقبة من المنافسة الجيوسياسية المتوسّعة، يحتاج المجتمع الدولي إلى معلومات إضافية حول انتشار الأسلحة النووية كي تتمكن الجهود الدبلوماسية من كبح العمليات التي تنشر الفوضى ووقف سباق التسلح.

معايير ومؤشرات متنوعة

لوقف الانتشار النووي وإطلاق المسار الذي يضمن إضعاف الأسلحة النووية، يجب أن تتخذ الدول والمؤسسات المتخصصة خطوات عدة، إذ يمكنها أن تبدأ بتحسين المعايير المرتبطة باكتساب اليورانيوم المُخصّب، ويجب أن تتجنب الدول المسؤولة شراء أو تخصيب المواد النووية بشكلٍ أحادي الجانب إذا كانت هذه المواد لن تُستعمَل لأغراض سلمية، وعلى الدول التي تُصِرّ على استعمال "حقها غير القابل للمساومة" لامتلاك مواد وتقنيات نووية حساسة لأغراض سلمية أن تؤكد نواياها الحسنة عبر اتخاذ تدابير إضافية لتعزيز الشفافية وتكثيف عمليات التفتيش، حيث يمكن تحقيق ذلك مثلاً عبر تنفيذ البروتوكول الإضافي الخاص بالوكالة الدولية للطاقة الذرية، مما يعني أن تسمح الدول للوكالة بمراقبة نشاطاتها النووية وجمع المعلومات عنها على نطاق أوسع، ويُفترض أن تنفّذ هذه الأطراف جميع الاتفاقيات النووية وتطبّق أفضل الممارسات في مجال السلامة النووية والأمن والمسؤوليات وحماية البيئة.

لتفعيل هذه الممارسات، يستطيع المجتمع الدولي أن يستعمل حوافز إيجابية وسلبية، منها مكافآت وعقوبات تجارية، لضمان امتثال الأطراف المعنية. مع مرور الوقت، قد تضيف الدول هذه الخطوات إلى اتفاقيات التعاون الثنائية ونتائج الاجتماعات المتعددة الأطراف، على غرار بيانات مجموعة العشرين، أو مؤتمر مراجعة معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية، أو قرارات مجلس الأمن.

قد يوحي اتفاق "أوكوس" الجديد بأنه يتعارض مع الأهداف المنشودة عموماً، لكنه يقدّم فرصة قيّمة لتقوية نظام منع الانتشار النووي، فقد كانت أستراليا تهتم في الماضي باكتساب أسلحة نووية لكنها تحوّلت على مر السنين إلى المدافعة الأولى عن منع الانتشار النووي، وهي تحمل سجلاً ناصعاً في هذا المجال، فمن المنطقي إذاً أن تتقبّل أستراليا قيوداً رسمية ومعايير شفافية غير مسبوقة لضبط مساعيها النووية المحلية في إطار اتفاق الغواصات وخارجه مقابل تلقي ضمانات أمنية جديدة، وتضمن هذه القيود طمأنة الدول الأخرى حول نوايا أستراليا السلمية، وقد تطلق مقاربة يستطيع الآخرون تقليدها حين يريدون الحصول على غواصات عاملة بالطاقة النووية.

لكن المعايير المتوقعة تقف عند هذا الحد، فقد تميل الدول إلى التهرب من التدابير المتزايدة، لذا تحتاج وكالات الاستخبارات الوطنية والمؤسسات الدولية إلى وسائل أفضل لتقييم الهدف من البرامج النووية، بما أن امتلاك المواد الانشطارية اليوم لم يعد مؤشراً كافياً أو مسبقاً على أهداف التسلّح. لحسن الحظ، تتعدد المقاييس البديلة والواعدة، وفي ما يخص الدول التي تحصل على مواد انشطارية، يبقى ابتكار رأس حربي فاعل أبرز عائق تقني يحول دون اكتساب أسلحة نووية، وبعبارة أخرى يجب أن تُكثّف مؤسسات منع الانتشار النووي جهودها لتعقب الأسلحة وسرعة تطوير معدات تسليمها.

تتعدد التجارب السابقة التي تشير إلى طريقة تحقيق هذه الأهداف، ففي عام 2006 مثلاً، دعم مجلس الأمن جهود الوكالة الدولية للطاقة الذرية للتأكد من طبيعة برنامج إيران النووي، وكجزءٍ من هذه الخطة، أجرت الوكالة تحقيقاً شاملاً حول برنامج طهران لتصميم وتطوير وبناء واختبار الآليات التي تُحوّل المواد الانشطارية إلى رأس حربي، ويمكن تطوير جهود مماثلة في المستقبل وإدراجها في مقاربة الوكالة الدولية للطاقة الذرية على مستوى الدول: تسمح هذه المنهجية بتقييم النشاطات النووية أو تلك المرتبطة بها في بلد معيّن عبر استعمال مجموعة واسعة من المعلومات. كذلك، قد تأتي جهود الاستخبارات الوطنية المستقلة لتُكَمّل نشاطات الوكالة، فيتمكن الطرفان من استخراج بيانات خاصة واستخدام أدوات تحليلية لتقوية عمليات التعقب، حتى لو كانت المراقبة الميدانية محدودة.

لكن لن تكون الرؤوس الحربية المعدات الوحيدة التي تحتاج إليها الدول لتحويل المواد الانشطارية إلى أسلحة نووية قابلة للتسليم، بل يجب أن تبني أو تشتري صواريخ متقدمة، وتستطيع المؤسسات العابرة للحدود أن تُركّز على تحديد البلدان التي تسعى إلى تصنيع صواريخ ذات قدرة نووية، فتُشدد بشكلٍ خاص على الخصائص التي تُميّزها عن أنواع أخرى من معدات الإطلاق، بما في ذلك الأدوات المُعدّة للأقمار الاصطناعية، وسيكون نظام الكشف الفاعل مفيداً، نظراً إلى عدد الدول التي تعمل على تصنيع أو اكتساب الوسائل التي تسمح بإنتاج صواريخ بالستية أو انسيابية لتسليم القنابل النووية، بدءاً من المملكة العربية السعودية وصولاً إلى كوريا الجنوبية، حتى أن جزءاً من هذه الدول ألمح إلى احتمال تطوير أسلحة نووية.

خطوات إيجابية

لن يكون تفعيل هذا النوع المُعدّل من نظام منع الانتشار النووي سهلاً، إذ يجب أن تتبنى أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة أولاً تدابير جديدة ومحددة لمراقبة النشاطات النووية، بما يتجاوز بنود اتفاق "أوكوس"، ثم يجب أن تضمن هذه الدول تعاون الصين وروسيا وبلدان أخرى تملك أسلحة نووية لإقناعها جميعاً بتطبيق الممارسات الفاعلة نفسها، ويُفترض أن تدعم الجهود الدولية لإعطائها طابعاً مؤسسياً، وفي غضون ذلك، يصعب إقناع الدول غير النووية بالموافقة على إجراءات جديدة لتعزيز الشفافية، ومن الأصعب طبعاً تقوية أي هيئة دولية لجمع معلومات إضافية حول البرامج التي تهدف إلى تصنيع الأسلحة.

لكن لن تكون هذه المهمة مستحيلة، وقد تتقبل تلك البلدان توسيع هامش المراقبة إذا أصبحت هذه التدابير جزءاً من مقاربة الوكالة الدولية للطاقة الذرية على مستوى الدول واستُعمِلت لتوجيه العمليات الروتينية المرتبطة بالضمانات، تزامناً مع إطلاق تحقيقات إضافية بحسب تفاصيل كل حالة. في نهاية المطاف، يمكن إدراج هذه التدابير كلها في إطار مجلس الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والمؤتمر السنوي لمراجعة معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية، ومجموعة العشرين، وقرارات مجلس الأمن، لإقناع الدول غير النووية بزيادة مستوى التدقيق بنشاطاتها، تستطيع القوى النووية الرائدة أن تضمن لها عدم استعمال أي أدوات أو مؤسسات قانونية دولية جديدة، مما يعني أن يرتكز النظام المُعدّل على أُطُر العمل القائمة راهناً، لكن يجب أن توضح تلك القوى أيضاً أن أحداً لا يحمل توقعات جديدة من الدول غير المسلّحة طالما لا تُكثّف هذه البلدان تخصيب اليورانيوم. في ما يخص الدول التي تختار استعمال اليورانيوم المُخصّب، سترتبط تدابير المراقبة والشفافية بنطاق نشاطاتها النووية.

أخيراً، تستطيع القوى النووية الرائدة أن تطرح حوافز جديدة لضمان الالتزام بإطار العمل المُعدّل عبر توسيع سياسات التصدير وبرامج المساعدات إلى الدول التي تسعى لاكتساب تقنيات نووية لأغراض سلمية، وقد يبدو تحرير صادرات المواد النووية مناقضاً لأهداف منع الانتشار النووي، لكنه قد يشكّل حافزاً قوياً لتشجيع الأطراف المعنية على الامتثال بالشروط المطلوبة منها، حتى أنه قد يقوي الرد الدولي على الأزمة المناخية. لقد تبيّن أن القوة النووية عنصر مهم للانتقال إلى استعمال مصادر الطاقة المتجددة، لكنها تترافق مع عوائق مالية وتكنولوجية شائكة في دول كثيرة.

قبل أن يتصدع النظام النووي بدرجة إضافية، يجب أن تطلق الدول جهوداً عاجلة لإعادة إحياء صفقة معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية، وهي خطوة أساسية لوقف الانتشار النووي أو كبح مساره مستقبلاً تمهيداً لنزع الأسلحة في نهاية المطاف، وبعبارة أخرى، يمكن الوصول بهذه الطريقة إلى عالمٍ لا تُستعمَل فيه التكنولوجيا النووية لزعزعة الاستقرار الجيوسياسي.

*توبي دالتون وأرييل ليفيت

Foreign Affairs