كرمت الأمم المتحدة الشاعر الكويتي وراعي تراث الكلمة المقفاة والشعر، عبدالعزيز سعود البابطين بمنحه جائزة اليوم العالمي للغة العربية في الحفل الذي يقام في مبنى الهيئة الدولية الرفيعة، ورغم الفرح والارتياح الواسع لهذا التقدير ونيل الشاعر هذه الجائزة، فإن هذا التكريم والتقدير أثار في الوقت نفسه ما تمر به العربية لغة وثقافة مطبوعة وإلكترونية، من ظروف ومعاناة في التعليم والإعلام والحياة العامة.

وكان المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت على رأس من قدم التهنئة للشاعر، الشخصية الثقافية المتميزة، حيث نقل الناطق الرسمي للمجلس د. عيسى الأنصاري في تصريح صحافي تهنئة كل من وزير الإعلام السابق الأستاذ عبدالرحمن المطيري وأمين عام المجلس السيد كامل العبدالجليل للشاعر البابطين، معبرين جميعا عن عدد لا يحصى ممن يقدرون الدور الكبير لشخص الشاعر وجهود المؤسسة التي يترأسها، صاحبة الدور المشهود منذ تأسيسها سنة 1989، في خدمة الثقافة واللغة العربية، وقد تزامن هذا التقدير الرفيع مع تحذيرات مقلقة في بعض أجهزة الإعلام حول واقع ومعاناة اللغة العربية في عقر دارها.

Ad

فبعد أيام قليلة من أجواء الاحتفاء والاحتفال نشرت صحيفة "الجريدة" أن جامعة الكويت "تنعى" العربية في يومها العالمي، وأن أساتذتها أكدوا لـ"الجريدة" غربتها على ألسنة الطلبة، وتدهور قدراتهم اللغوية، والتي قدرت في وقت سابق أنها لا تتجاوز المرحلة المتوسطة، وإذا كانت هذه حال طلبة الجامعة وقسم اللغة العربية فكيف بغيرها؟ كما ألقت رئيسة المجلس العالمي للغة العربية الأكاديمية الكويتية د. ليلى السبعان، كلمة "أون لاين"، حيث بينت د.السبعان أن هدف المؤسسة عصرنة اللغة العربية والعمل على استيعاب المصطلحات العلمية الحديثة ومواجهة التحديات الكبيرة المعاصرة. (الأنباء 19/ 12/ 2021) ويعلم الجميع مدى صعوبة مثل هذا الالتزام ومتطلباته الثقافية.

ونشرت إحدى الصحف بعد أيام استطلاعاً مثيراً لبالغ القلق- كما أشرنا منذ قليل- عبر فيه أساتذة قسم اللغة العربية بجامعة الكويت عن انتقادات ومخاوف حقيقية حول الواقع الشديد التراجع لمستوى استيعاب واستخدام اللغة العربية بين طلاب الجامعة، فبعض ما حذر منه أساتذة اللغة العربية بالجامعة يتجاوز جرس الإنذار إلى نداء الاستغاثة!

د. رائد الشلاحي قال "إن هناك العديد من الطلبة غير قادر على التعبير كتابة ولغة، كما أن البعض منهم غير قادر على كتابة جملة، مع وجود أخطاء إملائية واضحة في إجابة الاختبار"، الأخطر من ذلك قول د. الشلاحي "لاحظنا أن بعض الطلبة لا يستطيعون كتابة أسمائهم، بسبب ضعف الخط، كما أن مستوى كتابتهم مقارب لمستويات الطلبة في المرحلة المتوسطة".

الدكتور يوسف العويهان أشار إلى أن مستويات الطلبة شديدة التردي في الإملاء، و"أصبحنا نلجأ إلى وضع مقدمات عديدة في الدروس مع تقليل المنهج"، وكذلك مراجعة ما يفترض أن الطلبة قد درسوه من مناهج الثانوية.

واشتكى د.وليد العنزي من ضعف وركاكة التعبير اللغوي لدى الطلاب، بل إن "بعضهم يواجه صعوبة في فك الخط".

(الجريدة 22/ 12/ 2021).

الجنود المدافعون عن اللغة العربية في بلداننا إذاً يدافعون ويحاربون وظهرهم مكشوف! ومقابل كل جهد دولي يبذل لتقدير هذه اللغة وترسيخ مكانتها، وإزاء معاناة كل طالب يحاول إتقانها في مكان ما بفضل مجهودات مؤسسة البابطين الكبيرة، ثمة للأسف أزمة ضخمة تعانيها لغة الضاد في بلادها.

غير أن مشاكل تعليم اللغة العربية والحديث بيننا ليست ناجمة عن إهمال الطلاب في الجامعة أو التعليم العام فحسب، بل الأمر بحاجة إلى دراسة معمقة في طرق تدريسها وتحديث أساليب كتابتها، وبخاصة بعد أن أصبحت الكتابة اليدوية شبه مهجورة، وعمت أساليب الطباعة والمسجات والثقافة الإلكترونية وتحدياتها. ويجر هذا كلا بلا شك إلى تطوير القواعد اللغوية والإملائية وتحديث المعاجم... إلخ.

وسط كل هذه "الآلام اللغوية" ثمة مفاجآت مفرحة تهديها دولتا قطر والإمارات العربية المتحدة إلى اللغة العربية في خطوات تاريخية بحق، فتحت إشراف د.سلطان بن محمد القاسمي الرئيس التنفيذي لمشروع المعجم التاريخي للغة العربية ظهرت هذا العام أولى نتائج جهود لغوية جبارة بذلت بصمت وتوجت بظهور "المعجم التاريخي للغة العربية" في مجلدات متوالية تقدم كلمات اللغة العربية في تطورها عبر التاريخ، منذ أول استخدام لها إلى اليوم متى ظهر الاستعمال وبأي معنى وفي أي كتاب أو صحيفة، ولك أن تتصور كمية الجهد والوقت المطلوبين لرصد ذلك بالدقة المعجمية اللازمة لكل هذا.

كان معجم الدوحة التاريخي للغة العربية قد سبق معجم الشارقة، حيث بدأ المعجم القطري بالصدور سنة 2013 وسط صعاب لا حصر لها، والواقع أنني لم أطالع المعجمين حتى الآن كي أخمن على الأقل المدة المطلوبة لإصدار كل المجلدات، وما مدى إمكانية توحيد الجهود أو تقاسمها لاختصار الوقت.

المعاجم التاريخية معروفة في اللغات الأجنبية منذ قرابة القرن، وأشهرها قاموس أوكسفورد للغة الإنكليزية The Oxford English Dictionary في 13 مجلدا الصادر عام 1933 والسنوات اللاحقة، وتقول المراجع إن ثمة قواميس تاريخية للغة الفرنسية والألمانية والروسية كذلك، ولست أملك معلومات وافية عن اللغات الآسيوية.

نعود الى اللغة العربية وما تعانيه من مشاكل، فالمهم في الواقع ليس بقاء اللغة فقط فهي باقية بلا شك ويزداد الاهتمام بها ولكن ثمة تحديات كبرى أمامها في مجال المنافسة والترجمة وتوسعة الاستخدام وأوضاع التدريس بها والإعلام وكذلك الانتشار الواسع للأخطاء اللغوية في الكتب والمطبوعات ووسائل الإعلام وهناك عشرات الكتب في الأخطاء اللغوية وبرامج "قل ولا تقل" الإذاعية وغيرها.

تقول الموسوعة البريطانية طبعة 1980 قبل نصف قرن، بخصوص مستقبل اللغة الانكليزية في مادة English Language، إن من المتوقع أن تدخل تعديلات على أساليب التلفظ أو التهجي pronunciation، والمزيد من التقارب بين الإنكليزية والبريطانية والإنكليزية الأميركية وربما تقارب الإنكليزيتين إلى الإسبانية والإيطالية.

ومما توقعته الموسوعة آنذاك تقلص الفجوة الإملائية بين النطق والكتابة في اللغة الإنكليزية، وذكرت الموسوعة ضمن تنبؤاتها أن من أهم العوامل المؤثرة القادمة الثقافة الإلكترونية والترجمة الآلية وهيمنة وسائل الإعلام والتواصل، وتوقعت دخول تعديلات على الأفعال المساعدة، وكذلك التوسع في نحت الكلمات الجديدة، واحتمال اشتقاقها، ليس من الجذور والأصول اليونانية واللاتينية فحسب، كما هي الحال في الإنكليزية وغيرها، بل سيمتد الاشتقاق والنحت إلى جذور ولغات أخرى كالفرنسية والإسبانية والروسية، فتظهر بذلك كلمات مشتركة مع الفرنسية والإسبانية والروسية.

وقد نتساءل هنا عن علاقة العربية باللغات الأخرى الشرقية كالتركية والفارسية والأردية، وحتى اليابانية والصينية، وبالطبع اللغات الأوروبية التي اقتبسنا الكثير من تشبيهاتها وتعبيراتها وأساليبها في التعبير، ومن الخطأ الفادح أن نغمض العين عن المشاكل التي تعانيها اللغة العربية اليوم في المدرسة والشارع والكتاب والمكتبة والصحافة، فالمدرسون يتحاشون تدريسها والطلاب يعانون في تعلمها، وهناك مخاطر ثقافية وشيكة تهددها، ونحن إذ نشيد مرة أخرى بجهود الشاعر والرائد الثقافي عبدالعزيز البابطين فإننا ندعو إلى أن ندرك مشاكل اللغة في الواقع الحياتي للعالم العربي، وأن نتعامل مع هذه المشاكل بأساليب علمية وطرق عصرية.

● خليل علي حيدر