التقيت بمن زار مصر أخيرا، وكان مبهورا بما تحقّق فيها من إصلاحات تنموية خلال فترة قصيرة، بدءًا من توسعة قناة السويس الى تطوير شبكات السكك الحديد، ومترو الأنفاق، والطرق، والجسور.

تحدث عن جمال المدن حول القاهرة، والعاصمة الإدارية، وعن مساهمة هذه المشاريع في انخفاض الازدحام وارتفاع مستوى النظافة، وعن مدينة الشمس السياحية التي سيتم تطويرها في منطقة الأهرامات المهملة منذ عشرات السنين، والتي انتقل إليها أيضا المتحف المصري الكبير، مما سوف يزيد من أهميتها وقدرتها على جذب السياح.

Ad

مشاريع إصلاحية تنموية سيكون لها تأثير إيجابي على الاقتصاد المصري بصفة عامة، وتحسين مستوى التعليم والصحة والسعادة، لتعود إلى مصر قوتها الاقتصادية ومكانتها كمركز سياحي دولي.

هذه النوعية من الإصلاحات، سوف تنفع الاقتصاد المصري من دون شك، لأنها تساهم في زيادة فرص العمل ومحاربة الفقر، لذلك تنجح في الدول ذات الكثافة السكانية العالية. لكنها لا تناسب بلدا معظم الوظائف التي تخلقها لا تقبلها البطالة الوطنية، لأنّ عدد مواطنيه محدود، ومتوسط دخل الفرد يعد من ضمن الأعلى في العالم.

إننا في الكويت معظمنا سعداء بحاضرنا ومدللون، ونتمنى استمرار الحال، إن أمكن، ليتمتع أبناؤنا برعاية مماثلة، لكننا قلقون على المستقبل.

أسعار النفط مذبذبة، وكل حكومة تنشغل بإصلاح أو استكمال ما بدأته حكومة سابقة، لتكون النتيجة بناء أغلى مطار من دون رغبة بالانفتاح، وأغلى جامعة لتخريج طلبة بمستوى الصف السابع، وأجمل دار للأوبرا دون منحها الحرية اللازمة لتحسين مستوى الثقافة والفنون.

10 حكومات شهدت مراحل بناء هذه المشاريع، آخرها تبدو أكثر واقعية، لأنها خفضت طموح الحكومة السابقة من استدامة الرخاء الى "استدامة الأمان"، لكنّها حافظت على "إقرار الدَّين العام" و"السحب المنظم من صندوق الأجيال القادمة"، ربما لتخصيص المزيد من المليارات لتغطية رواتب الموظفين، وتطوير المزيد من مشاريع النموذج المصري.

لهذا أكرر، المواطن سعيد بحاله الآن، ويرفض أن تُمس مكتسباته، لكن خوفه من المستقبل يقلقه، فقد أصبح المبلغ الذي يحتاج إليه لشراء منزل صغير في بلده يكفيه في بلد آخر ان يشتري بيتا ويعيش فيه طول عمره بمستوى جيد.

والمواطن الذي يعي أن مرتبه الحقيقي يتجاوز ما يستحق مقابل عمله، يتضاعف قلقه، لأنه يدرك أن بقاء الحال من المُحال، وأن صندوق الأجيال القادمة الذي هدفه الأساسي تأمين مستقبل الأجيال، لن يساهم في إزالة القلق، لأنه حاليا صندوق استثماري لا علاقة له بالأجيال القادمة سوى اسمه.

لكن يكفينا من هذا الصندوق الذي تجاوز حجمه مئات المليارات أن نتعلم التالي:

أولا: يستثمر الصندوق معظم أموال الأجيال القادمة خارج الكويت في دول معروفة باقتصادها الحُر المبني على المنافسة وناتج عمل مواطنيها. قوانينها ثابتة وتحترم حقوق الإنسان.

ثانيا: نظام التعليم في تلك الدول لا يدفع الطالب ليتعلم بماذا يفكر، وإنما كيف يفكر.

ثالثا: يتمتع المواطن فيها بمساحة من الحرية، ولديه الوقت والحافز ليفكر ويبدع.

لدينا مساحة من الحرية أفضل من معظم الدول المجاورة، لكنّ وقت المواطن وفكره مُحتكران في الوظيفة الحكومية. لا بدّ من تحرير جزئي لوقته وتحميله المسؤولية ليستفيد من هذا الوقت في تطوير ذاته، والبحث عن فرص أخرى لتحسين دخله.

وقد يكون فيما اتخذته دولة خليجية من قرارات لتقليص ساعات الدوام الرسمي خير وسيلة للبدء في تحرير وقت المواطن.

بإمكان الفرد أن يتكيف مع البيئة مهما كانت صعبة، مادامت القواعد والقوانين ثابتة ومعروفة وعلى الجميع الالتزام بها، لكن من الصعب أن يتكيف مع بيئة تتغير قوانينها وقراراتها دون سبب وحسب مزاج المسؤول.

إننا بحاجة إلى قواعد شطرنجية واضحة تعتمد على مبادئ مُعلنة يعرفها المواطن والمسؤول، حتى يتم تطبيقها دون حاجة إلى مراجعة أيّ كان.

وقواعد لعبة الشطرنج ثابتة ومعروفة منذ مئات السنين، لا يملك أي مسؤول صلاحية تغييرها، ولا حق استثناء أي من اللاعبين عنها، ولن يحتاج من يرغب اللعب إلى إضاعة الوقت في مناقشتها لأنها معروفة.

في تقرير نشرته أخيرا الجمعية الاقتصادية الكويتية، أكدت رأيها بأن "أي إصلاح يبدأ من مسّ جيب المواطن هو إصلاح ساقط اقتصاديا، قبل أن يسقط شعبيا". طبعا هذا الرأي في نظري قد يكون من أسباب تعثُّر التنمية، لأنه غير منطقي ولا علاقة له بالاقتصاد.

فقد استطاع الشعب المصري خلال الإصلاحات الأخيرة أن يتكيّف مع ارتفاع أسعار الوقود والخبز، وانهيار سعر صرف الجنيه الى ثلث ما كان عليه. لكنّ رأي الجمعية له قبول شعبي وبرلماني، كما أنه يتوافق مع رغبة القيادة السياسية والحكومة بتحقيق استدامة الأمان الاجتماعي.

أتمنى أن يكون من أسباب طلب الحكومة "السحب المنظم من صندوق الأجيال القادمة"، هو ضمان استمرار دفع الرواتب والدعوم خلال فترة محدودة بتأهيل المواطن. ولن تطول هذه الفترة متى اقتنعنا بأن المواطن هو البديل الوحيد والحقيقي للنفط، واستبدلنا رؤية 2035 برؤية 2025، لنجعل الكويت بلدا يرغب صندوق الأجيال القادمة وغيره في الاستثمار به.