يبدو أن بعض أعضاء مجلس الأمة خلط في جلسة الخميس بين حرية النقد وحرية الكلمة، والرأي وبين السب والشتم والتجريح، لأن الفرق بين الاثنين كالفرق بين الحق والباطل والإباحة والجريمة، فقد صح عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه طاف بالكعبة وقال "ما أطيبك وما أطيب ريحك وما أعظمك وما أعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن عند الله أعظم حرمة منك". (صحيح الترغيب والترهيب)، فالاعتداء على الحرمات ليس برأي أو حرية إنما هو جريمة توازي جريمة الاعتداء على الكعبة المشرفة، لذلك استغربت وأنا أستمع إلى تصريحات النواب وفرحتهم بما يسمى الحريات بعد التصويت على المداولة الثانية على قانوني المطبوعات والمرئي والمسموع خصوصاً النواب الإسلاميين، إذ تم الخلط بين الحريات المشروعة وهي محمودة وبين الاعتداء على حرمات الآخرين وهي جريمة منبوذة، فكيف فاتت النواب الآيات والأحاديث الكثيرة التي تنهى عن التطاول على كرامات الناس وأعراضهم وخصوصياتهم والكذب عليهم وتشويه سمعتهم وغيرها من الآفات التي انتشرت في وسائل التواصل اليوم؟ ولا أدري كيف انقلب حماسهم ليلبس الظالم لباس الحرية في القانون على حساب المظلوم؟! وكيف تكون حرية المعتدي الظالم هي الهدف بدلاً من حرية المظلوم الذي أسيء إلى عرضه أو كرامته أو مكانته؟ لقد كان على النواب مراجعة التعريف الصحيح للحرية قبل الفرحة بحرية من يخالف القانون.

لا يوجد في الشريعة الإسلامية ولا في القوانين الكويتية ما يمنع حرية النقد الهادف البناء، وإنما فيهما ما يمنع نشر الأخبار الكاذبة والاعتداء على الأشخاص وحقوقهم، وفي مقال سابق ومقابلة تلفزيونية قمت بنشر الأعداد الرسمية عما يزعم بعض الناشطين أنهم مساجين رأي، حيث اتضح أن عدد المسجونين منهم في الكويت لا يتجاوز 35، والهاربين لا يتجاوز عددهم 19، وأنهم ليسوا مساجين رأي، إنما استغلوا وسائل التواصل للاعتداء على الدين الحنيف أو رمز البلاد أو الاعتداء على الشرف والأعراض بالصور والتهديد والابتزاز، والمواد المعاقب عليها بالسجن على هذه الأفعال لم يتم تغييرها في الجلسة، أما المواد التي تم إلغاؤها من القانون في المداولة الثانية وفرح بها النواب فلم يسبق أن تم الحكم بسجن أحد بسببها، أما عقوبة السجن على التعدي على الدول الشقيقة فهي موجودة في قانون الجزاء لا المطبوعات.

Ad

وأيضاً أخطأ وزير الإعلام، وكادت اللجنة أن تغير جريمة خدش الآداب العامة لولا فضل الله، ثم تدخل النائب أسامة المناور، جزاه الله خيراً، الذي رد على الوزير وبين الخطأ الذي وقع فيه.

لقد تم وضع مواد القانونين في المجالس السابقة لكي يتمكن من وقع عليه الاعتداء من مقاضاة من أساء إليه في وسائل الإعلام فوضعت جملة (دون الإخلال بعقوبة أشد وردت في قانون آخر)، فإذا كانت الإساءة لفظية بسيطة اكتفى القاضي بالغرامة حسب قانون المطبوعات، أما إذا كانت الإساءة جريمة أكبر كالقذف أو جرائم أخرى شنيعة خاصة إذا تكررت من الشخص نفسه فإن للقاضي حق تطبيق قانون الجزاء، وكل ذلك من أجل الحفاظ على صحة المجتمع وسلامة التخاطب، فإذا باللجنة تزيل هذه الجملة المهمة وتمنع القاضي من تطبيق قانون الجزاء وتخل بالتناسق التشريعي والوحدة القانونية، والمضحك المبكي في تعديل اللجنة أن أصبح من يقذف غيره في ديوانية أو مطعم أو شارع لا يسمعه إلا قلة من الناس يطبق عليه قانون الجزاء، أما من يقذفه في وسائل التواصل الحديثة بحيث يطّلع على هذا القذف مئات الألوف من الناس لا يطبق عليه إلا قانون المطبوعات والمرئي والمسموع، فعجباً!

لقد عاقب عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، الشاعر الحطيئة بالحبس عندما أساء إلى أشخاص بهجاء واضح ومعلن، ومن المعلوم أن القضاء لا يحكم بالإدانة إلا إذا كانت الإساءة واضحة ولا يمكن تبريرها، فغالبية القضايا تنتهي بالبراءة وأشهرها براءة د. حسن جوهر في القضية التي رفعها عليه وزير الصحة السابق د. باسل الصباح رغم قوة النقد الذي ذكره د. حسن في مقابلته التلفزيونية، فلا سجن ولا غرامة.

ألا يعلم النواب أن الحريات يجب أن تكون مقيدة بأحكام الشريعة؟ ألا يعلم النواب أن الحريات مقيدة بحقوق الآخرين والمصلحة العامة وتقف عند حدود القانون في كل بلاد العالم حسب قيمها ومصلحتها، والتي أوردت أمثلة عليها في المقالات السابقة من فرنسا وبعض الدول الغربية؟

لذلك من المستغرب مدى تأثر بعض النواب بوسائل التواصل التي تخلو في أحيان كثيرة من العلم الشرعي والقانوني، وقد أحسن الدكتور صالح الشلاحي عندما اقترح في الجلسة بأخذ رأي هيئة الفتوى الشرعية، وطالب بأن تشدد العقوبة حسب الشريعة على إحدى الفئات التي تسيء بشكل واضح، واقتراحه هذا موافق للدستور تماماً الذي حمّل مجلس الأمة أمانة الأخذ من الشريعة الإسلامية، لكن المجلس لم يستمع له للأسف.

لقد كان على النواب الوقوف مع من تتم الإساءة إليهم من المواطنين وتعديل القانون لمنع المسيئين من التهرب من العقوبة بالحجج المعتادة التي يتحججون بها في المحاكم (مثل حسن النية وابتغاء المصلحة العامة) لأن العبرة هي بالإساءة التي تمت لا بنية المسيء التي لا يعلم حقيقتها إلا الله، وكان على الإسلاميين قبل غيرهم العبرة بالسؤال الذي قدمه معاذ إلى النبي فقال: "وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال صلى الله عليه وسلم، وهل يُكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم"، فهل سيحتج المسيء عندها بالحرية؟

● أحمد باقر