من الغريب أن نحتفل بالذكرى السنوية الأولى لحدثٍ يطغى على الحياة في بريطانيا منذ نصف عقد، ففيما يتعلق بالبريطانيين الداعمين للانسحاب من الاتحاد الأوروبي، يُعتبر يوم 23 يونيو التاريخ الذي يستحق الاحتفال، فقد اختار الناخبون البريطانيون حينها الخروج من الاتحاد عبر استفتاء رسمي. بدأت بريطانيا في تلك الفترة إجراءات الطلاق داخل الاتحاد الأوروبي بطريقة غير رسمية، فأطلقت العملية التي تُعرَف اليوم باسم "بريكست"، لكن لم تُنجَز هذه العملية رسمياً إلا قبل ساعة من منتصف ليلة رأس السنة في عام 2020، وانتهت حينها مرحلة انتقالية امتدت على سنة وخرجت المملكة المتحدة بالكامل من السوق الموحدة والاتحاد الجمركي الأوروبي، وهكذا بدأ البريطانيون يشقون طريقهم وحدهم بعد 45 سنة من انضمامهم إلى المشروع الأوروبي.

لكن رغم الأصوات التي تتكلم عن انتهاء مرحلة "بريكست"، فإن تداعياتها السياسية والاقتصادية تستمر حتى الآن لأن القواعد المرتقبة لا تزال تحت الاختبار، ونظراً إلى الأضرار الاقتصادية التي سبّبها فيروس كورونا، تطغى تداعيات الوباء حتى هذه اللحظة على الآثار الاقتصادية المترتبة عن مغادرة السوق الموحدة والاتحاد الجمركي الأوروبي، ففي معظم قطاعات الاقتصاد البريطاني، يشعر الرأي العام بأن الوباء أساء إلى البلد أكثر من "بريكست".

Ad

تبدو تداعيات "بريكست" ووباء كورونا متزامنة اليوم بكل وضوح، مما يؤدي إلى تراكم المسائل العالقة وزيادة النقص في قطاعات متعددة، فوفق دراسة جديدة، تبيّن أن كورونا وخطة "بريكست" ساهما معاً في تفاقم المشاكل، إذ تتعدد الأسباب التي تشير إلى مسؤولية "بريكست"، ولو جزئياً، عن نقص الوقود في شهرَي سبتمبر وأكتوبر، لكنّ غياب سائقي الشاحنات الذي انعكس سلباً على توزيع بعض السلع في المتاجر يشتق أيضاً من وباء كورونا، ولو أنّ "بريكست" زادت الأزمة سوءاً.

لكن رغم عواقب الوباء المربكة، بدأت تداعيات "بريكست" تتضح اليوم لأسباب عدة، فوفق تقديرات مكتب مسؤولية الميزانية في الحكومة البريطانية، ظهر التأثير الكلي على المدى المتوسط حين تراجع الناتج المحلي الإجمالي البريطاني بنسبة 4%، وسبق أن تحقق ثلثا هذا الأثر أصلاً، كما تبرز تقديرات أخرى في هذا المجال، كتلك الصادرة عن منظمة UK in a Changing Europe بالتعاون مع مركز الأداء الاقتصادي التابع لكلية لندن للاقتصاد، وتكشف هذه التحليلات أن أثر "بريكست" يتراوح بين 5.8 و7%.

لكن لن تتحمّل جميع المناطق هذه التكاليف بالتساوي، حيث تكشف الأدلة الأولية أن أكبر تداعيات "بريكست" اتّضحت في المناطق التي دعم فيها معظم الناخبين الانسحاب من الاتحاد الأوروبي في عام 2016، وفي المواقع التي تشمل أكبر عدد من الصناعات والموظفين ذوي المهارات المنخفضة، ولهذا السبب، لن يقتصر تأثير "بريكست" على تعافي الاقتصاد بعد زمن كورونا أو على الأداء الاقتصادي الوطني في المرحلة اللاحقة، بل إنه قد يعوق محاولات الحكومة البريطانية "رفع مستوى البلد"، كما يقول رئيس الوزراء بوريس جونسون، من خلال تقليص مظاهر اللامساواة في الثروات بين المناطق الأكثر ثراءً والأكثر فقراً.

قد لا يلاحظ الناخبون التراجع المحتمل للناتج المحلي الإجمالي لأنهم لم يختبروا هذا النوع من النمو يوماً، أو ربما يميل هؤلاء إلى ملاحظة الزيادات الضريبية أكثر من العوامل الأخرى، وفي هذا السياق، يظن خبير الاقتصاد إيان مولهيرن أن الزيادات الأخيرة في الضرائب (منها ضرائب مضافة بقيمة 20 مليار جنيه استرليني قد تفرضها الحكومة بحلول عام 2025) ما كانت لتصبح ضرورية لو بقيت بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، ومن المتوقع أن تبلغ كلفة "بريكست" الصافية على المالية العامة نحو 30 مليار جنيه إسترليني سنوياً.

لكن لا يهتم أي حزب سياسي بإلقاء اللوم على "بريكست" في كل ما يحصل نظراً إلى تراجع المؤشرات التي تثبت نزعة الشعب البريطاني إلى تغيير رأيه حول الخروج من الاتحاد الأوروبي، مع أن كبار خبراء الاقتصاد يُجمِعون على تداعيات "بريكست" السلبية (لكنهم يختلفون حول قوة ذلك الأثر).

خلال الانتخابات العامة في عام 2019 ثم الانتخابات المحلية في عام 2021، جمع جونسون في البداية ائتلافاً من داعمي الانسحاب من الاتحاد الأوروبي ثم عمل على ترسيخ سلطته، فحصل على دعم 75% من الناخبين المؤيدين للانسحاب في ديسمبر 2019، وقد تكلم في أوساطه الخاصة عن احتمال تحويل شعار "متابعة إنجاز بريكست" إلى جزءٍ من حملة إعادة انتخابه، ومن الواضح أنه يستعمل استراتيجية "فَرِّق تَسُد"، إذ تتماشى مبادئ "بريكست" مع توجهات ناخبيه المحافظين لكنها نقطة خلاف في معسكر المعارضة بقيادة "حزب العمال" الذي يحتاج إلى استمالة مؤيدي الانسحاب من الاتحاد الأوروبي لتحسين فرص عودته إلى السلطة، ولهذا السبب، توقّع بعض المحللين البريطانيين في منتصف عام 2021 أن يبقى جونسون في السلطة عشر سنوات أخرى.

لكن مؤشرات مختلفة برزت في الفترة الأخيرة مفادها أن خطة "بريكست" لم تعد ورقة انتخابية رابحة بقدر ما كانت عليه سابقاً، ويعكس استطلاع جديد أجرته منظمة UK in a Changing Europe مستوى القلق من تداعيات "بريكست": يعتبر 56% من المشاركين في الاستطلاع أن "بريكست" أثّرت سلباً على إمدادات الأغذية والسلع، ويظن 51% منهم أنها تنعكس سلباً على كلفة المعيشة، وبحسب الاستطلاع نفسه، يشعر ثلث الناخبين الداعمين للانسحاب من الاتحاد الأوروبي اليوم بأن كلفة المعيشة تضررت بسبب "بريكست"، وإذا زادت حدة هذه المشاكل، فقد تتلاشى النتائج التي يتمنى جونسون تحقيقها بفضل الخلاف العام حول "بروتوكول أيرلندا الشمالية".

قد يتعلق أكبر مصدر قلق اليوم بتفوّق عدد المقتنعين بسوء أداء جونسون في أوساط الناخبين المؤيدين للانسحاب من الاتحاد على عدد المقتنعين بحُسْن أدائه، فبعد فوزه في عام 2019، اعتبر 74% من الناخبين في هذا المعسكر أنه يقدّم أداءً جيداً، ثم ارتفعت هذه النسبة إلى 86% بعد تفشي وباء كورونا في أبريل 2020، لكن هذا الرقم تراجع اليوم إلى 38%، ومن الواضح أن الامتنان لا يدوم طويلاً في عالم السياسة.

في غضون ذلك، بدأ "حزب العمال" المعارِض يحاول للمرة الأولى استعمال خطة "بريكست" كسلاح بحد ذاته، ولو مؤقتاً، فقد سبق أن أدت الانقسامات السائدة داخل الحزب بسبب هذه المسألة إلى تبنّي مقاربة أكثر حذراً، إذ يفضّل زعيم المعارضة كير ستارمر تجنب الموضوع كله بدل المجازفة بتأجيج الخلافات الداخلية، لكن ستارمر طرح حديثاً شعار "تفعيل بريكست"، مما يعني أنه يُشكك بطريقة تعامل الحكومة مع "بريكست" بدل التشكيك بقرار الانسحاب من الاتحاد الأوروبي.

مع مرور الوقت وبعد تلاشي الوباء، ستزيد صعوبة نَسْب تعثر الأداء الاقتصادي البريطاني إلى تدابير الإقفال التام وقيود أخرى مرتبطة بوباء كورونا، ونتيجةً لذلك قد يُحقق "حزب العمال" بعض النجاح في محاولاته ربط النتائج الاقتصادية المخيّبة للآمال باتفاق "بريكست" الذي عقده جونسون، ويتابع التشكيك بثبات بنوده.

قد تكون التوقعات وسيلة عقيمة، لا سيما في السياسة البريطانية المعاصرة، ففي النهاية، توسّعت النقاشات حول ما ينوي رئيس الوزراء البريطاني فعله على مر سنواته العشر المحتملة في السلطة تزامناً مع إشادة حكومة جونسون بنجاح برنامج توزيع اللقاحات منذ أقل من سنة، لكن جونسون يواجه اليوم تُهماً بالفساد وبتجاهل التدابير المضادة لوباء كورونا من جانب المعارضين المتمردين في البرلمان، وعدد من أشرس المنافسين على القيادة، وبسبب تعثر الاقتصاد، أمام هذا الوضع، تبدو مكانة رئيس الوزراء هشة جداً اليوم.

لن يسهل تحديد تداعيات هذه التطورات على مستقبل جونسون أو العلاقة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، لكن انطلاقاً من الظروف الراهنة، يبدو أن الحكومة البريطانية بدأت تتساهل في تعاملها مع "بروتوكول أيرلندا الشمالية" بدرجة معينة، مما يعني أنها لا تستطيع ولا ترغب في إطالة قائمة مشاكلها عبر خوض مواجهة مباشرة مع الاتحاد الأوروبي.

لكن لا يعني ذلك أن التقرب من الاتحاد الأوروبي أصبح خياراً وارداً، لقد أدت خطة "بريكست" إلى نشوء منافسة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، فسارع جونسون والوزراء في حكومته إلى استعمال أي مؤشرات على تفوّق أداء المملكة المتحدة لإثبات منافع "بريكست"، وعلى مستوى السياسة الخارجية، من المتوقع أن يستمر التردد في التناقش حول إمكانية التعاون مع الاتحاد الأوروبي أو حتى التفكير بهذا الخيار.

وحتى لو نجحت بريطانيا والاتحاد الأوروبي في حل خلافاتهما الكبيرة حول "بروتوكول أيرلندا الشمالية"، من المتوقع أن تنشأ هدنة حذرة في أفضل الأحوال، فطالما يبقى المحافظون في السلطة داخل بريطانيا، سيشكّل اتفاق التجارة والتعاون المبرم في السنة الماضية ركيزة للعلاقات الثنائية، ويتراجع احتمال تعميق التعاون بين الطرفَين بما يتجاوز شروط الاتفاق المحدودة، كما لم تعد "بريكست" على الأرجح ورقة سياسية رابحة بالنسبة إلى جونسون، وقد تبدأ تداعياتها بمطاردته قريباً على المستويين الداخلي والدولي.

* أناند مينون

Foreign Affairs