عندما اتّجهت روسيا نحو شبه جزيرة القرم عام 2014، لم يكد "رجالها الخضر الصغار" يحتاجون إلى إطلاق النار قبل السيطرة على المنطقة وانتزاعها من أوكرانيا، ينجم نجاح تلك العملية جزئياً عن سرعتها وحصولها بطريقة غير متوقعة، كانت كييف منشلغة حينها بأزمتها السياسية بعد سقوط الرئيس فيكتور يانوكوفيتش الموالي لروسيا في 21 فبراير نتيجة الثورة الأوكرانية، ولم يتسنَ لها أن تردّ على الغزو الذي حصل بعد أيام معدودة، وفي 27 فبراير، أصبحت تلك المنطقة تحت سيطرة روسيا الكاملة.

يختلف ذلك الوضع عن الحشد العسكري الذي تنفذه روسيا اليوم على حدودها مع أوكرانيا، وتحذر الاستخبارات الغربية منذ أسابيع من حشد نحو 100 ألف جندي روسي (أو حتى 175 ألفا وفق تقديرات أخرى) على الحدود استعداداً لغزو جديد ضد أوكرانيا في يناير المقبل، فقد ضمّت روسيا شبه جزيرة القرم بين ليلة وضحاها، لكن التحضير للغزو المحتمل الجديد بدأ منذ أسابيع.

Ad

سواء حصل ذلك الغزو أو لم يحصل، استغل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التحضيرات الظاهرية للغزو كورقة ضغط إضافية لتجديد مطالبته بهندسة أمنية جديدة في محيط بلده.

هذا الأسبوع، طلبت موسكو من حلف الناتو أن توقف جميع نشاطاتها العسكرية في شرق أوروبا وجنوب القوقاز وآسيا الوسطى، طالبت روسيا أيضاً بضمانات تمنع الجمهوريات السوفياتية السابقة من الانضمام إلى الحلف، فبرأي بعض الخبراء، ستشكّل هذه المطالب الغريبة مناورة واضحة في أي مفاوضات محتملة بين روسيا والناتو، وفي غضون ذلك، رفض الرئيس الأميركي جو بايدن طلباً روسياً سابقاً يدعو إلى إلغاء الوعود بِضَمّ أوكرانيا وجورجيا إلى الحلف.

من المتوقع أن يترافق أي غزو محتمل مع عقوبات هائلة، وقد أعلن الغرب أنه مستعد لفرضها في حال اندلاع الحرب، كذلك، سيتأثر اقتصاد البلد بأي جولة جديدة من التدابير الغربية، مع أنه زاد قوة بعد سبع سنوات من العقوبات.

لهذا السبب، يظن البعض أن الوضع الراهن سيستمر ولن يحصل الغزو المتوقع، وفي هذا السياق، تقول كاثرين كوين جادج، محللة سياسية أوكرانية في مجموعة الأزمات الدولية، إن استمرار الصراع الإقليمي العالق يخدم مصالح الطرفَين معاً.

يقال إن السلطات في دويلات موالية لروسيا مثل "دونيتسك" و"لوهانسك" متورطة بتهريب الأسلحة والتبغ، لكن تخشى جهات معينة في هذه الأوساط أن تتعرّض للملاحقة القانونية إذا عادت المناطق الخاضعة لسيطرتها إلى روسيا، ففي الحد الأدنى، ستخسر هذه الأطراف سيطرتها على عمليات التهريب وخطط الفساد التي زادت ثرواتها.

في غضون ذلك، بات الكرملين مقتنعاً بأن الصراع القائم لم يسمح له بتحديد التوجهات الجيوسياسية في كييف، لكنه يسمح لروسيا بمتابعة الضغط على الحكومة الأوكرانية الموالية للغرب وزعزعة استقرارها.

كذلك، يبدو أن انفصال "دونباس" عن أوكرانيا يصبّ في مصلحة القوميين الأوكرانيين المتشددين، إذ لم يعد هذا المعسكر يحتاج اليوم للتعامل مع شريحة واسعة من السكان الموالين لروسيا أو الناطقين باللغة الروسية في البلد، فقد كان هذا العامل يشكّل عائقاً كبيراً أمام نظام الحُكم الموحّد والموالي للغرب الذي تحلم به هذه الجماعة.

تقول كوين جادج: "يحمل المتشددون أسباباً أيديولوجية معينة لتبرير عدم رغبتهم في إعادة الاندماج مع أوكرانيا"، وفي الوقت نفسه، يبدو أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي تخلى عن وعوده السابقة بتجديد العلاقات مع المناطق التي يسيطر عليها الانفصاليون.

تستنتج كوين جادج في تحليلٍ جديد لها: "قد يستمر الصراع الخفيف الراهن إلى ما لا نهاية لكن تتخلله أحداث مقلقة كتلك التي نشهدها اليوم، وسرعان ما تصبح هذه التطورات جزءاً من المراوحة القائمة". حتى لو لم تندلع الحرب بين روسيا وأوكرانيا إذاً، فقد لا تكون هذه الجولة من الاضطرابات المتصاعدة الأخيرة من نوعها.

● إيدو فوك - نيو ستيتسمان