منذ مئة عام - ودون مبالغة - اختفى من عالمنا العربي العلماء الحقيقيون، بسبب انكماش العلم وفقدان الحرية الفكرية والعلمية المطلوبة من جهة، وبسبب غياب مسلك ومنهج العلماء عند معظم الباحثين المجتهدين ممن يحاولون أن يكونوا في صفوفهم، فتغيب عندهم الحيدة والتجرد والموضوعية والتسليم بالحقيقة العلمية.

ولا يعني ذلك غياباً مطلقاً للعلماء الذين نجد لهم نماذج نادرة بين الفينة والأخرى، لكنها تظل في هامش الندرة.

Ad

ولعل ظهور طبقة المثقفين والنشطاء في النطاق الفكري والثقافي والسياسي، كان سبباً في ذلك الغياب للعلماء. وهذا التحول لفئة المثقفين - في خضم حركات الاستقلال والتحرر من المستعمر، والتي كانت عنواناً للوطنية والقومية في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ عالمنا العربي والإسلامي، إضافة إلى الانبهار الحضاري بالغرب، والذي عصف بحالة التوازن لدى معظم مكونات طبقة المثقفين هذه- هو ما زاد نمط المثقف الذي يسخّر مساهماته الفكرية في تبني أو الدفاع عن توجهات فكرية هو أساساً رديف عليها، وليس صانعاً ولا لاعباً أساسياً في تكوينها، أو للانخراط في صفوف المثقفين المناوئين للسلطة، إما لانحياز وطني أو قومي حقيقي في مواجهة سلطة موالية لمستعمر أو للغرب، أو طمعاً في أن يكون له دور في السلطة وطمعاً في توليها. ومن هنا شهدنا اختلاط حركات التحرر بانقلابات عسكرية يغذيها مثقفون ويقطف ثمرتها طامحون للسلطة من المثقفين أو العساكر، وهو ما شهد حالة من التحولات المتتالية في العديد من البلدان العربية، ولا يكون الاستقرار لأي منهم إلا بقدر رغبة المستعمر أو الغرب في بقائه واستمراره، وفي مقابل ذلك ظهرت طبقة المثقفين ممن رفع شعار التبرير والموالاة المطلقة، فصار همه الفكري والثقافي التبرير للسلطة وأعمالها، حتى ظهرت لدينا طبقة للميكافيليين، أكثر تبريراً للسلطة وتعدياتها من ميكافيلي نفسه.

وفي خضم تلك الأجواء والظروف، غاب العلماء، وساد المثقفون، باتجاهيهم السابقين، مع وجود قلة معتزلة أو متفرجة، إلا أن أزمة المثقف العربي تلك انعكست على مسار الحياة العامة في دولنا العربية سياسياً واجتماعياً وثقافياً، وما زالت سائدة حتى اليوم، وقد صار همُّ طبقة المثقفين، وأزمتهم الحقة، هو الصراع فيما بينهم بجميع انتماءاتهم الفكرية، ليس لبناء مشروع وطني ونهضة وطن، وإلا ما أعجزهم ذلك عن توحيد الجهود، بل صارت غايتهم أن يحقق كل منهم لنفسه دوراً في أحد الاتجاهين السائدين، فاحتدم الصراع فيما بينهم، وهم يظنون أنهم يُفشلون غرماءهم ويحققون مكسباً، والحقيقة أنهم يفشلون وطنهم ويدمرون مؤسساته. ومع إدراك الأنظمة لهذه الحقائق فإنها مارست لعبة التغذية والتشجيع المتزامن بكل الأطراف، إضعافاً لهم من جهة، ولتفكيكهم والهيمنة عليهم من جهةٍ أخرى.

وإلى أن يعود المثقفون العرب لرشدهم ويعي السياسيون وغيرهم هذه الحقيقة، ويغيروا مسلكهم الذي يبني الأوطان، ستظل الدول العربية تعاني من هذا النموذج للمثقف العربي المثقل بأزمته، وهو لن يتم إلا بمشروع وطني تنموي حقيقي، بعيداً عن الصراع والمكاسب الشخصية، خلافاً للتوجه الذي ترعاه الأنظمة وترحب به، لقصر نظرها، علماً بأن سقوط الوطن يعني سقوطها حتماً.

● أ. د. محمد المقاطع