العلماء لا يوقعون عن رب العالمين

تعددت مفاهيم الإصلاح الديني باعتباره المدخل الأساس للإصلاح العام، لكن مفهومي للإصلاح الديني هو كسر احتكار العلماء للفهم القرآني، بمعنى أن القرآن نزل للبشر كافة، ومن حق أي إنسان أن يفهم النص القرآني الذي هو بلسان عربي مبين بلا حاجة للاستعانة بالعلماء، كما أن من حقه أن يعبر عن هذا الفهم دون أن يقال له: أنت لست متخصصاً في الدين، فلا يحق لك أن تعبر عن فهمك الديني، لا احتكار في الفهم الديني، ولا وسيط ديني بين النص والفهم الإنساني، فالقرآن نزل هداية للناس كافة بنصوص واضحة بينة ميسرة للفهم والتدبر دون وسطاء متخصصين دينيين.

Ad

رغم أن القرآن الكريم كتاب هداية وتنوير، فإنه أيضاً كتاب تحرير للعقل من هيمنة الوسطاء الدينيين، وقد حارب الوساطة الدينية بين العبد وربه محاربة شديدة، ونعى على أتباع الديانتين السابقتين اتخاذهم أحبارهم ورهبانهم وسطاء، وهذا ما اهتدى إليه القس لوثر الذي فجر الإصلاح الديني الأوروبي في القرن الـ 16 بكسره احتكار الكنيسة للفهم الديني للإنجيل، ودعوته لحق المسيحي في الفهم الحر للنص، وهو ما وضحه الإمام محمد عبده في كتابه "الإسلام بين العلم والمدنية" بقوله في "قلب السلطة الدينية" جاء الإسلام أساساً لنقض سلطة البشر الدينية على بعضهم بعضاً، ولكل مسلم أن يفهم عن الله ورسوله بدون توسيط أحد من سلف أو خلف إذا كان مؤهلاً للفهم، وعلق تلميذه السيد محمد رشيد رضا بقوله: يعني لا يجب على المسلم أن يجعل أحداً من علماء السلف أو ﺍﻟﺨلف واسطة بينه وبين الله ورسوله يتقيد برأيه واجتهاده في فهم كتاب الله أو سنة رسوله.

من هنا لا سند لما ذهب إليه الإمام ابن القيم من أن علماء الدين عندما يصدرون أحكاماً شرعية فإنهم يوقعون عن رب العالمين، فالعلماء لا يوقعون عن رب العالمين وليس لأحد من البشر مهما علا كعبه في الدين سلطة التوقيع عن رب العالمين، بدليل نص الحديث الصحيح "حديث بريدة" وفيه أن الرسول قال له "إذا حاصرت أهل حصن فأرادوا أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا".

ما معنى هذا الحديث؟

إنه نص قاطع في أن العلماء لا يوقعون عن الله، إنما يوقعون عن أنفسهم، وأن كل أحكام البشر نسبية ولا أحد يملك الحقيقة المطلقة غير الله تعالى وحده.

وقد يقال: لا بد من احترام آراء العلماء، فهم أهل الاختصاص الذين وكل القرآن بهم أمر النظر الديني "فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ"، وإذا كنا نحترم آراء أهل الاختصاص من المهندسين والأطباء والمحامين وغيرهم، فكيف تدعو لحق الناس الحر في الفهم الديني وكأن الدين كلأ مستباح لا سياج له؟

وهذا تساؤل يبدو ظاهره منطقياً مقبولاً لكنه ينطوي على مغالطة:

فأولاً: قياس التخصص الديني على الطب والهندسة والمحاماة قياس فاسد، لأن هذه مهن احتكارية، وفِي أصل احتكارها حق ممارسة المهنة التي تجمعها نقابات مهنية تستهدف الهدف المادي وكفالة المورد ومنع المنافسة بموجب شروط وقيود لحساب المهنيين، ونحن نحترم آراء العلماء، لكن الفهم الديني ليس مهنة احتكارية يتعيش الفقيه من ورائها، والقرآن والسنّة ليسا حانوتاً أو استرزاقا يتعيش منه البعض، ويحجر على غيره أن يخدم القرآن والسنة إيماناً واحتساباً!

ثانياً: ليس من الصحيح دائماً أن المتخصصين هم أفضل من يطور موضوعات تخصصهم، فالثابت أن الأغلبية العظمى من الإضافات الإسلامية المبدعة والتي ساهمت في تطوير وإثراء الفكر الإسلامي وقدمت اجتهادات مواكبة للعصر، هي من شخصيات من خارج الحقل الديني، فكم من مهندس وطبيب وقانوني وصل بنور القريحة وهدي البصيرة وبدراسته الذاتية إلى ما لم يصل إليه حامل الشهادة في علوم الشريعة! (تفسير القرآن الكريم لجمال البنا) يتبع.

*كاتب قطري

● د. عبدالحميد الأنصاري