لن نكون منصفين أو محقين إذا قلنا إن بوريس جونسون بدا غير مناسب لرئاسة الحكومة منذ لحظة توليه هذا المنصب، فقد اتّضحت هذه الحقيقة قبل وصوله إلى مقر رئيس الوزراء بكثير، لا شيء في مسيرته يشير إلى رجلٍ قادر على تحقيق النجاح في واحد من أكثر المناصب الشاقة في البلد، فهذا الوضع كان متوقعاً منذ البداية.

ما الذي يريد جونسون تحقيقه كرئيس وزراء؟ لا أحد يعرف الجواب، حتى أن الحكومة لا تطرح أي برنامج واضح، بل يشوبها نوع صادم من التخبّط، فغالباً ما يتعلّم رئيس الحكومة كيفية تحسين أدائه مع مرور الوقت، لكن تبقى شخصيته وطبيعته وأهدافه ثابتة بشكل عام، فقد يكون هذا الوضع مقبولاً في زمن الازدهار والهدوء، لكنه ليس ممتعاً بأي شكل في الوقت الراهن.

Ad

تمرّ جميع الحكومات بلحظاتٍ تصبح فيها الحقيقة عبئاً ثقيلاً عليها، لكن تحوّلت الأكاذيب في هذه الحكومة البريطانية إلى أسلوب روتيني ونموذجي في جميع المجالات، ونُظِّمت حفلة لعيد الميلاد في مقر رئيس الحكومة حديثاً وكان جميع المشاركين يعرفون أنها خطوة غير صحيحة، لكن بدل الشعور بالإحراج مؤقتاً، قررت هذه الحكومة أن تهين ذكاء الجميع، فقالت: "لم تحصل أي حفلة، وإذا حصلت، لم يخالف أحد القوانين".

في الوقت نفسه، تعرّض آلاف الناس للملاحقة القانونية لأنهم خالفوا تدابير مكافحة فيروس كورونا، وتحمّل الملايين القيود الصارمة حفاظاً على المصلحة العامة، ولو على حساب حريتهم، لنفكر مثلاً بجميع الجنازات التي خَلَت من الناس ولحظات الوداع الأخيرة التي حُرِم منها الكثيرون، يكفي أن نتخيل هذه التجارب كي نصدر أحكامنا على أداء هذه الحكومة.

لكن لا تقتصر المشكلة على حفلة عيد الميلاد، فقد أكدت الأحداث الأخيرة مجدداً أكاذيب الحكومة، إذ تتزامن قلة كفاءتها مع شكلٍ فاضح من اللامبالاة، وما كان انسحاب بريطانيا من أفغانستان ليكون عملاً نبيلاً في أي ظرف من الظروف، لكنه زاد سوءاً بسبب طريقة التعامل مع الوضع، وأثبت مكتب الشؤون الخارجية عجزه عن تجاوز التحديات في اللحظات الحرجة، وأسوأ ما في الأمر هو أن وزير الخارجية وسكرتيره الدائم كانا في عطلة، ولم يفكر أيٌّ منهما بضرورة إنهاء العطلة والعودة إلى العمل، لكن إذا فشل مكتب الشؤون الخارجية في مطلق الأحوال، تقع المسؤولية في نهاية المطاف على وزارة الخارجية ورئيس الحكومة.

هذه الحكومة لا تتحلى بالشجاعة الأخلاقية أصلاً لتحمّل مسؤولية قراراتها، إذ تفتقر هذه الإدارة إلى الجدّية ولا تحمل أي تجارب قد تستفيد منها، حيث تتعدد الحكومات السيئة أو الفاشلة عموماً، لكنّ هذه الحكومة بالذات تبقى سيئة وفاشلة بطريقة مختلفة.

هل يمكن أن يتفاجأ أحد بلا مبالاة الحكومة إذا كان رئيسها غير مستعد لأخذ واجباته على محمل الجد؟ حين تصبح جميع المواضيع عرضة للسخرية، يخسر كل شيء قيمته، وعندما يتحول الأداء السياسي كله إلى عرض مسرحي، فمن سيهتمّ بالوقائع السائدة؟ وما المغزى من كل ما يحصل إذاً؟ لا تحمل هذه الحكومة أي هدف واضح، وتفتقر إلى الرؤية الثاقبة، ولا تهتم باستعمال الأدوات التي أثبتت فاعليتها، كما يحصل مع جميع الحكومات، يبدأ كل شيء من أعلى المراتب دوماً، فالمسألة الأساسية تتعلق بالقدرة على إصدار الأحكام وحجم الثقة بالسلطة.

في الأنظمة الشمولية، يعرف الناس أن المسؤولين يكذبون عليهم، وهذا الوضع ينتج واقعاً مزيفاً في نهاية المطاف، ويكفي أن نتذكر المتحدث باسم صدام حسين، محمد الصحاف، الذي كان يظهر كل ليلة على التلفزيون العراقي ويشدد على فشل الغزو الأميركي، حتى أنه أكّد للمشاهدين في مرحلة معينة غياب القوات العسكرية بالقرب من بغداد رغم تصاعد صوت الرصاص في المنطقة، ولا شيء من هذه المواقف يعكس الحقيقة على أرض الواقع، ولا شيء يشبه العالم الذي يُصِرّ النظام على التكلم عنه. هكذا يصبح الأسود أبيض والأبيض أسود، ويستحيل فهم الواقع من دون فك شيفرة التصريحات الرسمية.

بريطانيا لا تشمل نظاماً شمولياً ولا استبدادياً، لكن إصرار الحكومة على المعلومات المغلوطة وقدرتها على إطلاق هذه المواقف الخادعة بكل سهولة يحمل نقاط تشابه معيّنة مع الواقع المزيّف الذي يميل الحكام الدكتاتوريون الفاشلون إلى الترويج له، إذ يدرك الجميع أن هذه التصريحات مزيفة، لكنها جزء من العرض السياسي، ولا شيء حقيقي وكل شيء ممكن، لكن من يهتم بما يحصل أصلاً؟ الوضع كله شائب وقذر والمشكلة مستعصية.